بقلم : د. حمدى هاشم .. الأنهار هي القنوات الطبيعية لجريان المياه العذبة والطمي معاً، بالانحدار من منابعها حسب تضاريس سطح الأرض. وهكذا يجرى نهر النيل بحمله المائي الخصب من المرتفعات الأثيوبية وغيرها من دول منابع أعالي النيل حتى مصبه بالبحر المتوسط. وإن كان النهر قد وهب مفتاح الحياة للحضارة المصرية والمصريين، فإن فوائد الطمي للتربة الزراعية تجربة وخبرة مصرية ترسخت منذ آلاف السنين. وتعد دلتا نهر النيل من أخصب دلتاوات الأنهار في العالم، وذلك قبل ظهور مشكلة التخزين الميت من الطمي ببحيرة السد العالي وآثارها البيئية. وقد تكونت الدلتا بمرور الزمن، من جريان الطمي المستديم الملازم لمياه النيل، الذي يترسب بكميات كبيرة في منطقة الدلتا وداخل مياه البحر المتوسط، أي أن هناك دلتاوتان، دلتا أرضية تنمو لتحافظ على ارتفاعها من منسوب سطح البحر وأخرى بحرية غارقة فوق الرفرف القاري، وهما في النهاية يشكلان معاً (على صعيد مصر السفلي) حالة من التوازن الطبيعي بين حصة كل منهما من الطمي في البر والبحر. ولكن الوضع قد اختلف، بعد مرور أكثر من أربعة عقود على بناء السد العالي، نتيجة نشوء حالة الخلل البيئي المترتب على تزايد معامل التخزين الميت للطمي بالبحيرة، مما أفقد دلتا النيل بالتدريج قدرتها الذاتية للمحافظة على توازن المنسوب بينها وبين البحر. أضف إلى ذلك، أن التخزين الميت للطمي قد شكل دلتا جديدة فوق المجرى القديم للنهر بالبحيرة (على صعيد مصر العليا)، والتي يقع الجزء الأكبر منها داخل الأراضي السودانية، حيث بلغ سمك الطمي ببحيرة النوبة بالسودان أكثر من 20 متراً، بينما لا يزيد الطمي في سمكه عن المترين ببحيرة ناصر داخل الأراضي المصرية، حسب نتائج دراسات عام 1975. ولما انقطع الطمي بنهر النيل في رحلة جريانه الشمالي بعد عقبة السد العالي، طغى البحر على الدلتا بمرور الزمن، فتآكلت أجزاء منها بقوة تأثير الأمواج المستمرة، مما يؤدى إلى انخفاض في منسوب الدلتا المقابل لمنسوب سطح البحر. ومن الآثار المترتبة على ذلك ظهور مشكلة تجمع المياه بأراضي الدلتا المتاخمة للسواحل المصرية، التي يتم رفعها بالطلمبات لدفعها في البحر المتوسط، تلك الطلمبات التي يقدر استهلاكها من الكهرباء بما يزيد على 15% من جملة الطاقة المولدة من السد العالي. ناهيك عن مشكلة الفقد التدريجي المستمر في خصوبة المتبقي من الأرض الزراعية، وما أصابها من تدهور في نوعية التربة المتلازم مع تناقص الطمي بمياه النهر. وأمام تلك المشكلة لم تجد الحكومة المصرية وسيلة غير التوسع في إنشاء مصانع إنتاج الأسمدة، في محاولة لتعويض التربة الزراعية عن الحرمان من مصدر الطمي الطبيعي. وقياساً على ما سبق، يقدر استهلاك مصانع الأسمدة بنحو 30% من جملة الطاقة الكهربائية المولدة من السد العالي. دع عنك ما تسببه بقايا الأسمدة الزراعية المنصرفة في مياه النيل من تلويث وآثار ضارة ببيئة النهر وصحة السكان.
نعود قليلاً إلى الماضي، لنجد أن منطقة مروى في شمال السودان، وبالتحديد جزيرة مروى، من أفضل المواقع لإنشاء خزان لحماية الأراضي المصرية من الفيضانات المدمرة وتخزين كميات المياه الزائدة عن الحاجة للاستفادة منها في أوقات الجفاف، وذلك حسب الدراسات المصرية إبان الحكم المصري البريطاني للسودان (1946). ولكن لظروف فنية واقتصادية وسياسية تم بناء السد العالي داخل الأراضي المصرية، في مايو 1964. وبعد أربعين عاماً، بدأت الحكومة السودانية في تنفيذ سد مروى في شمال السودان، الذي سينتهي في عام 2010، وذلك لتعظيم الاستفادة من موارد نهر النيل. ومن الثابت أن مياه النيل قبل بناء السد العالي كانت تحمل ما يعادل 125 مليون طن سنوياً من الغرين، تلك المادة الأساسية والوحيدة المسئولة عن بناء التربة الزراعية والتي تحافظ على خصوبتها بعملية التجديد المستديم لمكونات التربة. وكان التوزيع الجغرافي لرسوبيات الطمي، أن التربة الزراعية في مصر العليا وقاع النيل حتى شمال القاهرة تستقبل نحو 15% من حجم الغرين الكلى، بينما يترسب مثل ذلك القدر بالأراضي الزراعية في منطقة الدلتا، وكانت النسبة الغالبة من نصيب شواطئ رشيد ودمياط، وما يتبقى يتلقفه الرصيف القاري بالبحر المتوسط. وكان لتجنب تلك الأزمة البيئية المستمرة والآثار السلبية الحادة، نتيجة انفراد السد العالي بمهمة التخزين طويل المدى للمياه، من التفكير في بناء أكثر من خزان يسمح بالتخفيف من كميات الطمي المتراكمة ببحيرة السد، وذلك بواسطة عمليتي الفتح والغلق للبوابات بالتناوب بين السدود، بناء على نتائج منظومة الرصد الرقمي والمراقبة الفضائية، بطول النهر من المنبع حتى المصب. وفى هذه الحالة، تدفع المياه التي تعبر السد والخالية من الرواسب ذلك الطمي المتراكم، لتجدد قدرتها على حمل الرواسب وأثر شدة تدفق المياه في تحريك الطمي الساكن بقاع البحيرة، مما يسهل عملية خروجه عبر بوابات السد التالي، وهكذا دواليك. وقد حالت تضاريس النهر داخل الأراضي المصرية بين فكرة إنشاء خزان جديد (إضافة للسد العالي وسد أسوان)، فتم التفكير في بناء سد مروى داخل الأراضي السودانية، لتأمين احتياجات السودان من الطاقة الكهربائية. هذا السد الذي سيحجب جزءاً كبيراً من رواسب الطمي التي تصل السد العالي، مما يؤدى إلى زيادة السعة التخزينية للبحيرة في مقابل انخفاض حجم المخزون الميت من الطمي.
ولا ريب أن للسدود آثاراً بيئية، تختلف في درجة حدتها بمرور الزمن، وتظهر بوضوح في تغير طبيعة النهر وتضرر التربة الزراعية وتهجير السكان المحليين وتذبذب في نطاقات الحياة البرية. ومن الآثار السلبية للسد العالي، زيادة النحر حول المنشآت النهرية وتعرض مجرى فرع دمياط للإطماء المستمر ومعاناة مجرى فرع رشيد من تزايد معدلات النحر، وانتشار نباتات ورد النيل الشرهة لخزن المياه، وتدهور التربة الزراعية بامتداد الأراضي بالوادي والدلتا، بالإضافة إلى غرق مساحة كبيرة من بلاد النوبة، بين أسوان شمالاً ودنقلة في السودان جنوباً، التي كانت تنتشر وسط أراضيها مناجم الذهب القديمة. ونتيجة لنضوب طمي النيل، لجأ الفلاحون المصريون إلى تجريف الأراضي الزراعية وعمل برك ومستنقعات بغرض الحصول على الطمي اللازم لتصنيع الطوب. ولا شك أن المناخ الجاف الصحراوي السائد بمنطقة بناء السدود بين دولتي مصر والسودان، سيساعد في حدوث تغير مناخي على المستوى المحلى، نتيجة تأثر ذلك المسطح المائي الضخم بالبحيرة بدرجات الحرارة المرتفعة ومن ثم ارتفاع معدلات التبخر التي تستهلك كميات هائلة من المياه. ويقدر البعض أن بحيرة السد العالي تفقد من المياه سنوياً قدر حصة العراق من نهر الفرات، أي ما يعادل 25% من جملة المخزون المائي بالبحيرة عند منسوب 180متراً فوق مستوى سطح البحر. وكان ذلك الفقد المناخي لمياه بحيرة السد العالي، وراء الاقتراح الأمريكي الأخير، بنقل تخزين المياه في المرتفعات الأثيوبية (حيث المناخ الأقل حرارة) للتقليل من حجم المياه المفقودة بالتبخر، مما يعود بالفائدة على دول حوض النيل الشرقي (مصر، أثيوبيا والسودان)، وذلك في ضوء ما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية لمساعدة دول الشرق الأوسط في إدارة مصادر المياه الطبيعية. وجدير بالإشارة، أن التجربة الإقليمية للتعاون بين دول حوض النيل في إدارة مصادر المياه، تعد من التجارب العالمية الرائدة،لما تقوم عليه من المشاركة في المنافع والربحية بين جميع دول الاتفاقية. وبفرض إقامة ذلك الخزان المائي الضخم داخل أثيوبيا، رغم تعارضه مع الظروف الطبيعية والتضاريسية، فإن تكلفة نقل المياه من تلك المرتفعات تزيد بشكل واضح مقارنة بنقلها من بحيرة السد العالي إلى أراضى الوادي والدلتا وسيناء.
رغم أن نموذج الحساب الهيدروليكي لتصميم السد العالي، تضمن العديد من القوى المؤثرة على المنشأ الخرساني من الزلازل وغير ذلك. بالإضافة إلى تصور المهندس الروسي الراحل نيقولاى ماليشيف مصمم المشروع، بأن بحيرة السد العالي تكفى لاستيعاب نحو 31 مليار م3 من المخزون الميت لرواسب الطمي التي تجلبها مياه النيل (على مدى 500 سنة)، وذلك بدون التأثير على السعة التخزينية لمياه الفيضان. ويرى البعض أن قوة احتكاك الطمي وضغط المياه المستمر والمتزايد قد يؤثران بشكل ما على جسم السد، ناهيك عن تلك التغيرات الطبيعية المحتملة من قوة الضغط الرأسي لذلك المخزون الضخم من المياه والطمي، وما قد ينتج عن تلك الأوزان الضخمة من تكوين بؤر أرضية غير مستقرة، مما قد يؤثر على استقرار القشرة الأرضية أسفل بحيرة السد العالي. وعلى صعيد آخر يظهر الوضع البيئي الراهن، أن تركيز المعادن الثقيلة من النحاس والزنك والمنجنيز والحديد في رسوبيات بحيرة ناصر أعلى منها في نهر النيل شمال السد العالي. وأن تركيز النحاس يكون أعلى في بحيرة ناصر منه في بحيرة النوبة. ولا تخلو رسوبيات بحيرة السد العالي من المواد المشعة الطبيعية وكذلك المعادن الثمينة، التي جلبتها المياه من مكامنها بمرتفعات منابع أعالي النيل. ودليل ذلك، أن عرضت إحدى الشركات الأجنبية على الحكومة المصرية، منذ حوالي ربع قرن مضى، تطهير بحيرة ناصر من الطمي بهدف استخراج بعض المعادن الثمينة الموجودة بوفرة مع رواسب الطمي، ومنها الذهب والفضة والبلاتنيوم وغير ذلك. ومن هنا يلزم الأمر، تكثيف البحوث العلمية التطبيقية بالمشاركة بين مراكز الأبحاث والهيئات والشركات المصرية المتخصصة، لتعظيم الاستفادة الاقتصادية من المخزون الميت للطمي والتخفيف من آثاره البيئية على المستوى القومي، وفتح المجال أمام تكنولوجيا استخلاص المعادن الثمينة والاقتصادية بالرسوبيات المدفونة في بحيرة السد العالي. وأيضاً دعوة شباب المخترعين في مصر لاستكشاف وسيلة تطبيقية عملية لنقل الطمي بكميات تكفى لإعادة التوازن البيئي بين الدلتا والبحر المتوسط، في محاولة قد تساعد في إبطاء زمن غرق الدلتا.
الكاتب: د. حمدي هاشم ـ خبير جغرافيا بيئية
بحث مبالات استخدامات مياه السدود
,فسر خصوبة التربة في مناطق الدلتا
, , , , , , , , ,بحث عن خريطة نهر النيل والدلتا
, , , , , , , , , ,دراسات مصرية فى نقل الطمى المتراكم خلف السد العالى إلى الأراضى الصحراوية
, , ,الجغرافيا الطبيعية شمال اعالي النيل
, , ,تصور افضل للاستفادة من نهر النيل
, , , ,فسر خصوبه التربه في مناطق الدلتا
, , , ,لماذا دلتا النيل من اخصب المناطق في العالم
, ,بحث عن مشكلة السد العالي في مصر
, , ,روسوبيات بحيرة السد العالى والمعادن الثمينة
, , Most Popular Tags
مقال رائع جدا
اول تعليق سمعته بعد تشغيل السد العالي كان من أحد أبناء عمومتي وكان وقتها خريج الثانوية الزراعية بمشاعر وقال لقد اتحرمنا من المياه الحمراء يقصد الحاملة للطمي.وطوال هذه السنوات قرأت أكثر من اقتراح هندسي لاخراج الطمي مع المياه من إنفاق السد.
حلوا جدا جدا جدا
indeed a very valuable study, clarifies many facts about dams.Thank you Dr Hamdy
لقد تفضل الله عليّ بوضع حل لكل هذه المشاكل وأكثر سميته "نهر النيل الجديد" وقد ارسلته للدكتور عصام شرف وهو قيد الدراسة والتنفيذ ومكاسبة ضخمة جدا، التفاصيل هنا:
https://docs.google.com/document/d/1LwBKoHDt4SumeMs2BD4ucjyoZ1_wDaHRYOcLM8PwYfs/edit?hl=en&pli=1#
f3lan alshar7 da gameel gddan bshkr DR\ahmed hashem
ا.د حمدى هاشم هذا المقال قضية قوميةمتخصصة وقد اوضحت القضية كاملة ومقترح للحلول . والقضية الأخرى هى غرق الدلتا بسبب ما يدعيه البعض من ارتفاع منسوب سطح البحر أم تآكل الشواطئ بسبب زيادة قوة مياه البحر عن قوة مياه النهر بعد السد العالى وكذلك انخفاض الطمى الذي كان مصدرا لتسميد الأراضى وكذلك ترسيبه على الشواطئ.
هناك محاولات مستمرة من الانسان أما للتعايش مع تغيرات أو متقلبات الطبيعة ، و اعتقد في ان تلك التغيرات و التقلبات ما هي الا دورات لصالح الحياة في معناها و مغزاها الازلي و الابدي (الي ان تقوم الساعة ) ففي الفيضان خير غذاء للارض و اثراء للزرع ، لكنه كان يتطلب من الانسان ان يبعد قليلا أو كثيرا عن مجري النهر ، الا ان حاجات الناس جعلت الانسان فردا و جماعات علي حرص من الاقتراب من مجري النهر زراعة و ملاحة .. و لذا صار الفكر مركزا علي منع الفيض خشية من غرق الارض و البيوت و ... وصارت السدود هي الحل ، و اعتقد دون تهوين من مشروعات السدود ان فكرة السدود فكرة محدودة و بسيطة مؤداها حجز المياه خلف السد ، و انبثق منها مسائل اخري مثل توليد الكهرباء أو ... تنظيم الري
وبذلك ضحي الانسان بثروة الغرين ... ثم بعد سنوات تبدأ الارض في التاكل و الضعف و تستهلك الكهرباء في مشروعات لعلاج ما فسد
المقال غاية في الاهمية بل انها من اهم المقالات التي قرأتها حول الموضوع ، وقد يكون هناك مقالات اخري هامة لكن الموضوع جد خطير يتطلب نموذج انساني ابتكاري لانعاش الوادي الاخضر حتي لا يتحول الي وادي اصفر يقتحمه ماء البحر الازرق اضافة لما اعتري الزرع من شحوب و اصفرار ...
لنحاول ان نحاكي النهر بنهر أو لنحاكي البحر ببحر هذا ربما يكون فكرا فلسفيا لا يرقي الي التطبيق .. لكنني اكرر مقال غاية في الاهمية
في الحقيقة السد العالي من أهم مشروعاتنا القومية إن لم يكن أهمها على الإطلاق
هذا المشروع كان حلما وتحقق وكانت أمالنا كثيرة أن نحقق الرخاء لمصر به
المياه هي أساس الحياة والله أنعم علينا بها ولكن لم نستفد منها الإستفادة المأمولة كان يجب إنشاء مجتمع متكامل حول بحيرة ناصر مجتمع زراعي ومجتمع صيد وثلاجات أسماك ومصانع أسماك ومجتمع سياحي على البحيرةوإنشاء طرق ومطارات ومواني صيد ومواني ركاب وبضائع وتواصل مع السودان وتشغيل وتسكين مئات الالآف من شباب مصر خير كثير يمكن يعود علينا من هذه البحيرة والخير الذي أرسله لنا الخالق الكريم لكن للأسف لم نستفد منه حتى الآن
شكرا على نشر هذه المعلومات القيمة
تمنياتى بمزيد التوفبق
للأسف الشديد يتم تناول هذا النوع من القضايا المصيرية بتسطيح شديد و لا مبالاة من جانب الجهات الحكومية و الرسمية في الدولة .
وهناك عدة تقارير أصدرتها المجالس القومية المتخصصة متضمنة دراسات و خطط لمواجهة هذه المخاطر ، كذلك تمتلئ الأدراج بالكثير من الأبحاث و الدراسات لمشروعات قومية للتغلب علي تلك الاثار الجانبية الخطيرة ، مثل نقل الطمي من خلف السد الي أمامه أو الاستفادة الاقتصادية من كميات الاطماء في مكانها خلف السد . لكننا للأسف نعيش في مصر المعاصرة : دولة بلا مشروع قومي و لا تخطيط جاد تحشد له الطاقات لاعلاء شأن الأمة و لانقاذ الأجيال القادمة .