آخر الأخباراخبار الفن والثقافة › الرواية السياسية عند عبد الرحمن منيف

صورة الخبر: الرواية السياسية عند عبد الرحمن منيف
الرواية السياسية عند عبد الرحمن منيف

العرب أونلاين- شوقي بدر يوسف: "إذا كان لي كلمة يمكن أن أقولها، فهي أني جئت إلي عالم الرواية من حيث لم يكن يتوقع أحد من عالم السياسة، والكثيرون يتصورون أنه ليست هناك رابطة بين الإثنين، وهذا هو الخطأ، إن العالمين متشابكان، لدرجة لا يمكن التمييز بينهما، إنهما وجهان لعملة واحدة أو هكذا يجب أن يكونا".
عبد الرحمن منيف

خلّف الروائي العربي الكبير عبد الرحمن منيف عالما سرديا معقدا وضع فيه خلاصة رؤيته للحياة، وجسد فيه ملحمة الوجود الإنساني في شتى صورها الرؤيوية والفكرية التي عركها وخبرها طوال سنين حياته الثرية الخصبة.

والمتتبع لأعمال عبد الرحمن منيف الروائية يجد أن هذا الكاتب الظاهرة قد أضاء في الرواية السياسية العربية فضاء فسيحا تناول فيه مناطق جديدة لم تعهدها الرواية من قبل، وصنع لنفسه خصوصية روائية اهتمت بالدرجة الأولى بحرية الذات وما يجب أن تكون عليه هذه الحرية، والصحراء العربية والتحول الذي حدث فيها، والثروة والنفط وانعكاس ظهوره في المكان الصحراوي القاحل، كما احتفى أيضا بالزمن العربي البعيد وتنبأ فيه بأحداث وتحولات كثيرة تناثرت في كثير من دروب إبداعاته الروائية.

وكما يقول عن عالمه الروائي الذي تشكل من واقعية سياسية جديدة تزامنت مع إشكاليات جديدة طرأت على الرواية العربية في خطابها السردي الجديد: "لقد حاولت منذ وقت مبكر نسبيا، أن اقترب من الصحراء، وكان ذلك بداية "النهايات" وحين اكتشفت إمكانياتها واحتمالات التحول فيها لم أتردد في أن أكرس كل جهدي من أجل الاندفاع إلى أعماقها، وهكذا قضيت سنوات عديدة في التحضير لهذه الرحلة الخطرة.

ولمّا شرعت بأولى الخطوات تأكدت أن هذا "المكان" يمكن أن يعطي الرواية العربية أحد ملامحها المميزة، وبالتالي يضعها في مواجهة إحدى القضايا الكبرى التي يجب ألا نتردد في اقتحامها والتعامل معها: الصحراء والنفط معا، وليس الصحراء الرومانية أو الصحراء الجاهلية، وليست "مدن الملح" هي رواية الحنين أو العودة إلى الجذور بمعنى المكان الأليف، حسب باشلار، وبالتالي فإن ضرورة العودة إليه مرة أخرى أو محاولة استعادته في الذاكرة كصيغة بديلة هو الشيء الذي لا بد منه، بل هي المدينة الفاضلة المنظور إليها دائما بعين الرغبة والوحشة".

وهكذا كانت "موران" عبد الرحمن منيف في "مدن الملح" عبر مئات السنين. صحيح أنها كبرت واتسعت في بعض الفترات، ثم تراجعت وانكمشت في فترات أخرى، بل وكادت تندثر جراء الطواعين والجوع والنكبات التي جاءتها، لكنها كانت دائما تنهض من بين الرمال وتعاود الحياة مرة أخرى.

وهكذا أيضا كانت فضاءات سجن الحياة الذي احتفى به منيف داخل أعماله الروائية: السجن الذاتي، السجن السياسي، سجن التخلف الاجتماعي، سجون كثيرة من شتى الأنواع والأشكال اتكأ عليها ليحيل منها صرخة احتجاج مدوية ضد مظاهر القمع والتخلف، وليحدد من خلالها موقفا معلنا عن البحث عن الخلاص والحرية والتقدم والديموقراطية والعدل.
وقد سئل عبد الرحمن منيف يوما: ألا يشكل انصرافك عن العمل السياسي اليومي، إلى الكتابة نوعا من.. الهروب؟

- بل هو استمرار للمجابهة بشكل آخر.. وقد يكون هو الأبقى. وقد كان فعلا هو الأبقى في هذه المسيرة السردية الروائية المتميزة التي ولجها عبد الرحمن منيف متحولا من مجال السياسة والاقتصاد والنفط إلى جانب فكري آخر هو مجال الإبداع السردي الروائي.

تقدم عبد الرحمن منيف إلى المشهد السردي مع مطلع السبعينات، إبان فورة هذا المشهد، واضعا نصب عينيه آنئذ المكان العربي، والزمان الإنساني، وحداثية الشكل، وكلاسيكية الرهان الروائي الذي كانت ولا زالت عليه الصورة إبان ظهوره، كما وضع أيضا نصب عينيه سلطة الذات مع الواقع، وسلطة الواقع على الذات، وصيغة مشروع روائي طموح انتقل به عبر خلفية سياسية إقتصادية كان مهموما بها قبل الإنتقال إلى نسق السرد الروائي، وصيغته الذي أبدع فيها باقتدار.

فكانت الإرهاصة الأولى لأول أعماله السردية في رواية "الأشجار واغتيال مرزوق" 1973 ثم توالت تجلياته السردية بعد ذلك مع "قصة حب مجوسية" 1974 و"شرق المتوسط" 1975 و"حين تركنا الجسر" 1976 و"النهايات" 1977 و"سباق المسافات الطويلة" 1979 و"عالم بلا خرائط" 1982 بالاشتراك مع جبرا إبراهيم جبرا، ثم ملحمته الخماسية مدن الملح بأجزائها "التيه 1984 – الأخدود 1985 – تقاسيم الليل والنهار 1989 – المنبت 1989 – وأخيرا بادية الظلمات 1989".

ثم تناول مجتمع السجون مرة أخرى في "الآن.. هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى" 1991 وانتقل أخيرا إلى التاريخ خاصة تاريخ العراق، وكأن العراق كان معه على موعد في آخر أعماله الروائية في ثلاثيته "أرض السواد" 1999.

كما أن ولعه بالسّير سواء ما كان منها يخص الإنسان أو المكان قد أفرز وجسد حيوات ومشاهد، وإبداعات متميزة في هذا المجال نتيجة لتنقلاته ورحلاته التي كانت لا تنتهي: "فقد ولد عبد الرحمن منيف في عمان/الأردن – كان والده من نجد في السعودية، وكان يعمل تاجر قوافل بين السعودية والأردن والشام وفلسطين والعراق، والدته عراقية "كما كان لوالده عدة زوجات في عدة بلدان عربية أخرى".

درس عبد الرحمن منيف في عمان ثم انتسب إلى كلية الحقوق في بغداد عام 1952، وخاض هناك غمار النشاط السياسي خلال مرحلة مهمة من تاريخ العراق، ولكنه ما لبث أن أبعد بعد توقيع حلف بغداد عام 1955مع عدد كبير من الطلاب العرب، واصل دراسته في جامعة القاهرة، ثم سافر بعد ذلك إلى يوغسلافيا حيث تابع دراسته في جامعة بلغراد وتخصص في اقتصاديات النفط، عمل زمنا في الشركة السورية للنفط بدمشق.

ثم انتقل للعمل في مجال الصحافة حيث التحق بمجلة "البلاغ" في بيروت وعمل بها لعدة سنوات غادرها بعد ذلك إلى العراق ثم غادر العراق أيضا، وهام في بلدان مختلفة حتى استقر به المقام أخيرا ما بين دمشق وعمان وبيروت، لذا كانت كثرة تنقلاته في هذه الأماكن الكثيرة هي الدافع إلى احتفائه بخصوصية المكان والإنسان معا، المكان الذي افتقده كثيرا، والإنسان التائه في الشتات.

فكانت سيرة الفنان السوري المغترب في ألمانيا مروان قصاب باشي، رحلة الحياة والفن وهي سيرة فنان وألبوم للوحاته التشكيلية " 1994 وكانت سيرة مدينة، جسد فيها سيرة "مدينة عمان خلال الأربعينات" 1994، وكانت سيرة صديقه الموريتاني "عروة الزمان الباهي" 1997، وقد كتب عنه عبد الرحمن منيف لأن تاريخ حياته يعتبر مرحلة تاريخية كاملة وهامة بتعدد أماكنها وهمومها وتحولاتها وإنكساراتها، وأخيرا جاءت "لوعة الغياب" 1999.

إن عبد الرحمن منيف في مشروعه الروائي الكبير، وفي طموحاته السردية قد أجرى النسق والسياق المنشود لهذا المشروع الذي بدأه بنصه الطموح "الأشجار واغتيال مروزق".

واستمر النهر المتدفق جاريا في صلب إبداعاته الروائية السردية ذاتها يقتحم به حلم الخلاص من سجن الذات، والقحط النفسي المتأصل في الذات العربية، والتيه المتراكم في فضاءات الواقع، والمكان العربي الأصيل وما طرأ عليه من تحولات وتغيرات، وحقق من خلال ذلك كله إسهامات قوية شاركت في صنع رواية عربية متميزة أفسحت المجال للعديد من الكتاب إلى الولوج إلى هذا المضمار بنفس الروح المتمردة وبنفس القوة الخلاقة المبدعة، وبنفس الطموحات الذي أرادها هذا الجيل من أصحاب الطموحات السردية العالية، ثم أفصح عبد الرحمن منيف عن مشروعه السردي المرتجي في كتابه الذي يمكن اعتباره بيانه الروائي الأول "الكاتب والمنفى/هموم وآفاق في الرواية العربية".

والمتتبع ببليوجرافيا أعمال عبد الرحمن منيف يجد نفسه أمام كاتب كبير آل على نفسه إلا أن يكون محور رواية عربية خالصة تأخذ من الأرض العربية مناخها وتضاريسها الخاصة، وتصب في الأرض العربية مضمونها السياسي والإجتماعي والإنساني، كاتب أطلق صرخة احتجاج ضد مصادرة حرية الإنسان في الوطن العربي.

وكانت مواقفه المعلنة دائما وسيرة حياته المليئة بالهم الإنساني، والمنفى الجبري الذي وجد نفسه فيه، هي الرواية التي لم يكتبها عبد الرحمن منيف، وإن كان قد عاشها على الأرض العربية حتى الثمالة، ودفع ثمنها غاليا من حريته الشخصية، وكان يدرك تماما أن عالمنا العربي يغص بأنواع لا حصر لها من المنافي التي يعاني منها المثقفون وسواهم، لذا كان اقتحامه عالم الرواية والسرد ليس من سبيل الوجاهة الثقافية، إنما هو من سبيل تعديل المسار الإيديولوجي والفني لطرح رؤاه السياسية والإجتماعية والإقتصادية أيضا في قالب إبداعي يعيش الدهر ويعايش الهم الإنساني بكل مسالكه ووقائعه وتوجهاته.

البحث عن أدوات الإدانة
رواية "الأشجار واغتيال مرزوق،" وهي العمل الأول في مسيرة عبد الرحمن منيف الروائية، والتي تعتبر بالنسبة له علامة هامة ومميزة في تجربته الإبداعية، فهي باكورة أعماله، وهي التي حققت له الإستمرارية في هذا المجال السردي المعقد الذي كتب فيه زمانه وغوايته وولعه وواقعه باقتدار كبير، في هذا النص ينغرس عبد الرحمن منيف في الواقع العربي ويحاول البحث عن أدوات الإدانة من داخل هذا الواقع، فهو يرسم شخصيات واقعية تتنفس الأجواء العربية المليئة بالضباب والفوضى والارتباك، وهو يحاول تحسس سلبيات وأزمات هذا الواقع، وهزائمه من خلال شخصية المثقف منصور عبد السلام" الذي عانى من سجن الحياة، وسجن الذات وسجن السلطة الكثير، والذي انتهى به الأمر إلى تدمير نفسه والعالم.

ويقول عبد الرحمن منيف عن تضاريس السجون العربية إنها غالبا ما تكون بلون التراب وتقع على تخوم الصحراء، وقد جاءت بعض رواياته تحمل سيرة هذا المكان البغيض وتحدد خطوط عريضة لوسائل القمع والقهر الموجودة فيه، وهي تميل بثقلها في هذا النص ناحية شخصيتي "منصور عبد السلام" و"إلياس نخلة" كنموذجين للمثقفين الواقعين تحت طائلة إيديولوجيتهما، وقد أدركا بحاستهما وحدسهما أن كل ما يدور حولهما هو عبارة عن صراعات، وتناقضات لا طائل من وراءها وإن الحل إنما يكمن في الحرية، والحوار وفي الإنسان نفسه.

لقد درس "منصور عبد السلام" في أوروبا وعاد إلى وطنه ليعمل مدرسا في الجامعة، وبعد عودته بفترة قصيرة شارك في صنع هزيمة يونيو 67، فقد كان مجندا أثناءها، لكنه لم يكن يستطع أن يدرك ما الذي حدث في الخامس من يونيو، ليس بسبب الطلقة التي أصابته وجعلته فاقدا لذاكرته فترة من الزمن، وإنما بسبب عجزه عن رؤية الواقع بوضوح تام وبالتالي فهمه، لقد فجرت وطأة الهزيمة كثيرا من التساؤلات التي كان "منصور عبد السلام" قد بدأ في الأجابة عليها من خلال معايشته للواقع والوقوف منه على كل ما يجري داخله.

ولكن ما كان يحدث على مستوى الواقع كان أكبر من تصوراته وحدسه، لذا فقد انتهى الأمر باقتلاع الأشجار وسقوط منصور فريسة الجنون والموت، الرواية تتكأ على السيرة الذاتية للشخصيات التي هي تروي سيرة حياتها عن طريق استرجاع ذكريات وصور الماضي، أما الأحداث فهي حكاية شخصيات تحارب وتقاوم، وتقدم محاولات التغيير وهي ترفض الواقع وتقاومه بكل ما أوتيت من قوة.

أما رواية "قصة حب مجوسية" فهو نص له مناخه الخاص، ونسيجه المتفرد في مسيرة عبد الرحمن منيف الروائية، وعن هذا النص قال منيف: "إن هذا النص مبني بشكل مختلف عن الروايتين الأخرتين "الأشجارواغتيال مرزوق" و"شرق المتوسط"، ولأنها رواية غير سياسية، فقد أعطيتها مجالا وطريقة في التعبير مختلفة، والكاتب، أي كاتب، عنده أفضليات بالنسبة لأعماله، ومن حقي أنا أن أفضل هذه الرواية على غيرها، خاصة وانها ظلمت، واستقبلت بشكل معين".

وقد عبر عبد الرحمن منيف في هذا النص عن المازوشية الذاتية، من خلال لذة إيذاء النفس والتي كانت بالنسبة للراوي الذي ليس له اسم محدد في النص هي لحظة التنوير الأساسية التي احتفى بها الكاتب، والتي تعتمد على النار المندلعة والمشتعلة في كل شيء، والمتحلقة حول الذات السادرة في مازوشيتها، وفي مقطع من مقاطع النص يتبدى لنا حرص عبد الرحمن منيف على ربط الحب بالموت، فكأنه يرجو السعادة من الناحية السلبية بعدما عجز عن امتلاكها من الناحية الإيجابية: "تقدمي أيتها المعبودة.

تقدمي ودوسي فوق عظامي، إن اللحظة التي تطأني قدمك هي لحظة ولادتي، لحظة عناقي مع العالم والطبيعة وكل الأسرار المقدسة في هذا الكون، لا تترددي وأنت تدوسين، إن عظامي تحتاج لقدمك المقدسة لكي تتطهر، لكي تقوي وتكون أكثر عنفوانا وقوة ". "ص 99"، فالنار المجوسية هي نار قاتلة، مدمرة والحب هنا هو الرغبة في الألم والانسحاق، وكأن العلاقة بين البطل والحبيبة المجوسية هي عبارة عن علاقة متدنية بين الأدنى والأعلى، وتجعل أيضا الإنسان الحقير يتطلع إلى الإنسان السامي الذي يطهره باستبداده وقهره.

لذلك نرى هذا المقطع، وكأنه عناق المتناقضات الأبدية، كالموت والولادة والحب والألم والضعف والقوة. وعبد الرحمن منيف في هذا النص الذي كان ترتيبه الثاني في مسيرته السردية كان يريد أن يطوع سرده لخدمة عتبة الرواية في مرحلتها القادمة بالنسبة له، لذا اختار موضوعا فلسفيا عن الحب مبتعدا بعض الشيء عن السياسة ومحاورها...

وفي "شرق المتوسط" وفي زمن ما، وعلى هذه الأرض الغبراء الممتدة إلى ما لا نهاية من شواطئ المتوسط وحتى الصحراء البعيدة، كانت أشياء كثيرة تحدث، وكانت أشياء كثيرة تمر بصمت، والإنسان في هذه الأرض الغبراء كان يتحدى. وفي ظل التحديات كانت دائما السجون والتعذيب وكثيرا ما كانت الاغتيالات، والتصفيات هي الأخرى نهاية المطاف، حتى جاء وقت أصبح فيه الإنسان أرخص الأشياء وأقلها اعتبارا.

وهذا النص يحاول أن يكون صرخة في جو الصمت، وتنبيها، وارتدادا قويا نحو صلابة الذات ومعدنها الإنساني الأصيل، ضد هذه الجدران الصماء التي تحوي داخلها الذات المتمردة، في الوقت الذي تبدو في الأفق غيوم سوداء كثيرة زاحفة، لعل شيئا يحدث قبل أن يدمر إنسان هذه المنطقة ويصبح مشوها ولا يمكن انقاذه.

إن هذه الرواية لا تعني أحدا وتعني كل الناس في حياتهم الخاصة والعامة، وإذا كان "رجب اسماعيل" بطل "شرق المتوسط" الذي عانى من حلقة السجن الدائرية الارتدادية، وكان حريصا على نقل قصص زملائه ومعاناتهم اليومية داخل السجن، هو نفسه الذي خرج من سجنه ورحل إلى باريس، وأحس بهذا الفضاء الخارجي الضد لما قد عاناه وأحس به، وارتطم به في وطنه وبين أهله...

إن إبراز وجه التناقض بين استراتيجية السجن واستراتيجية الحرية هي لحظة التنوير الرئيسية التي جسدها عبد الرحمن منيف داخل نسيج روايته "شرق المتوسط" ليقول من خلالها إن هذا الفضاء الذي يقع شرق المتوسط يحتاج إلى إعادة ترميم في هيكله وبنيانه وكيانه حتى يقوى ويقف على قدمه ثابتا.

وتعتبر رواية "حين تركنا الجسر" وهي الرواية التي كتبت عام 1975 ونشرت في العام التالي لكتابتها نصا رامزا لواقع عايشته الجماهير العربية كلها، وعايشته بقوة حتى أصبح هذا الرمز أحد معالمها الأساسية، فهذا الجندي "زكي النداوي" الذي دخل حربا لم يشارك فيها، بعد بناء الجسر الذي ستعبر عليه كتيبته، ولحظة أن حان وقت العبور.

جاءت الأوامر بترك الجسر والنجاة بأرواحهم، واستشرف الجميع هزيمة مرة بعد أن تركوا الجسر وراءهم، فلا هم عبروه ولا هم دمروه حتى لا يستفيد منه العدو، مما أدى إلى اتجاه هذا الجندي الصياد إلى المستنقعات "ويبدو الرمز واضحا" لصيد البط واللعب واللهو بدلا من استمرار المقاومة، وبدء مرحلة جديدة من الحرب مع العدو، إن الخلاص الذي بحث عنه "زكي النداوي" داخل المستنقعات هو ما عاشته الجماهير العربية فعلا بعد تركهم للجسر الكبير الذي كان سيعبر بهم إلى الخلاص والحياة الكريمة، نسمع "زكي النداوي" وهو يحاول أن يفك رموز المعنى في "الجسر" فيرمز له بالحرية المكبوته ويقول: "آه لو أن الناس رأوا الجسر؟

من يراه لا يستطيع الابتعاد عنه، لا يستطيع مفارقته، لكن الأشجار الذابلة فوقه، والغبار الذي يهب عليه كل النهار، دون أن يمر عليه أحد، يجعله حزينا، حتى لكأنه يبكي"... النص على الرغم من كونه من النصوص السردية المتميزة من ناحية معماره الفني في الرواية العربية إلا أن شخصية "زكي النداوي" حينما يلجأ فيها إلى المازوشية والهذيان والشتائم التي ينعت بها نفسه لتركهم الجسر دون نسف حتى يتحقق ولو الحد الأدنى للمقاومة.

إنما يحاول التكفير عن السلبية والاستسلام الذي وجد نفسه ومن معه يعيشون فيه. والحق أن شخصية "زكي النداوي" بالمقارنة مع النرجسية الغالبة على أبطال الرواية العربية تبدو شخصية أولى من نوعها ونسيج متفرد في أدبنا الروائي المعاصر.

وفي رواية "النهايات"، وفي مفتتح الرواية يقول عبد الرحمن منيف: "إنه القحط.. القحط مرة أخرى! وفي مواسم القحط تتغير الحياة والأشياء.. حتى البشر يتغيرون.. وطباعهم تتغير، تتولد في النفوس أحزان تبدو غامضة أول الأمر، لكن لحظات الغضب، التي كثيرا ما تتكرر، تفجرها بسرعة، تجعلها معادية، جموحا"، بهذه العبارة يتلخص المضمون العام للنص داخل هذا المفتتح القصير الذي يملك من الدلالات والتأويل والأفكار ما يجعل النص يشي بما يحمل.

ويعبر بما جاء به من مضمون، إن الموقع الذي تدور فيه أحداث النص هي قرية تدعى "الطيبة" تقع على تخوم الصحراء تماما، تقطنها فئة من البدو، يتوحدون مع المكان والزمان في مواسم الخصب والمطر والقحط والجفاف، الحيوان فيها يتشمم رائحة الغيم والمطر، ويشعر بنذر العاصفة ويحس بما لا يحسه الناس أنفسهم.

كما يتفرد "عساف الفهد" الشخصية الأساسية في النص كنموذج للبدوي العارف بأمور قريته وأهلها، كما يعرف أيضا مواسم الصيد وأماكنه والطرائق والوسائل المتبعه فيه، ونص "النهايات" في حد ذاته نستطيع أن نعتبره مقدمة متميزه أو مفتتح فضائي لخماسية "مدن الملح" التي أبدعها منيف بعد ذلك، حيث ينفتح الفضاء الصحراوي على مصراعيه بهذا السرد الروائي أمام الرواية العربية.

وتتقاطع أعمال أخرى مع هذا الفضاء، في صحاري أخرى وأعمال مختلفة تتخذ من الفضاء الصحراوي إشكالية جديدة للسرد الروائي العربي، حيث نجد أحمد إبراهيم الفقيه وإبراهيم الكوني في ليبيا وإبراهيم نصرالله في الأردن وصبري موسى في مصر والحبيب السالمي في تونس وغيرهم كثيرين، فطنوا إلى هذا الفضاء الرحب الواسع الذي يمثل جغرافية خاصة تنعكس علي الذات والواقع المعيش بكل ثقلها الاجتماعي والأنتربولوجي الخاص.

وفي "النهايات" تتلمس بداية الصحراء أثناء لحظة حرجة تواجه نموذج صغير من عالم الصحراء عند عبد الرحمن منيف وهو قرية "الطيبة" وكانت اللحظة هي لحظة القحط والجفاف، حيث جاء الجراد وجاء بعده الغرباء وانقلبت أحوال الناس، وبدأت الحياة تأخذ منعطفا جديدا، ولم يستطع الناس في الطيبة التوازن مع الطبيعة ومصادرها والتعامل معها، فحاول "عساف" أن يوائم بين حياته وحياة أهل عشيرته.

ويسقط عساف دونهم، وحينما رقدت جثة عساف، وأهل الطيبة في سهرتهم يحكون حكايات كلها عبارة عن تنويعات وتفريعات عن العلاقة بين الإنسان والحيوان والطير، وهي أيضا تنويعات على لحن النهاية، نهاية البشر والحيوانات، وخرج كل أهل الطيبة لوداع عساف، وكان موت عساف هو انبثاق لصحوة أهل الطيبة كي يفعلوا شيئا بدلا من أن ينتظروا الموت.

وفي رواية "سباق المسافات الطويلة" أو "رحلة إلى الشرق" تبرز العلاقة بين الشرق والغرب، كما يتجسد صراع من نوع آخر بين قوتين كبيرتين هما الأنجليز والأمريكيين إزاء ظهور النفط وبدء إستثماره بكميات كبيرة، ويقول منيف في مطلع الرواية "من يملك الشرق يملك العالم" وكأنه كان يتنبأ بما سيحدث بعد مرور ما يزيد على خمسة وعشرين عاما من كتابته لهذا النص، لذا فقد جاء هذا النص بحسه التنبئي ليقول إن احلام الشرق سوف تتكسر وتخفت، طالما سيكون هو بؤرة للصراعات بين القوى الخفية التي تحاول رسم خريطته، وفرض أحلام خاصة تخدم مصالحها...

وتبدو رواية "سباق المسافات الطويلة" مختلفة عن باقي نصوص عبد الرحمن منيف الروائية من ناحية البث الفكري والمعنوي المتضمن نسيجها، فالتحدي هنا لم يعد تحديا فرديا كما كان من قبل. ولكنه تحول إلى تحد جماعي، يأخذ شكله في الداخل دون القدرة على رصد تحركاته، إن التحرك الفردي لم يعد يجدي، فها هو يتحول لدى هذا الكاتب إلى محاولة لفهم العلاقة القائمة بين الشرق والغرب بين أفراد يتحركون وفق خطط واستراتيجية معروفة، وبين جماهير تتحرك وفق طبيعتها العفوية التي تعبر عن ذاتها أثناء لحظات الغضب.

وفي "عالم بلا خرائط" التي كتبها عبد الرحمن منيف مع جبرا إبراهيم جبرا، تتداخل الأسئلة والأجوبة في هذه الرواية، بحيث يصعب القول أحيانا أيها الأسئلة وأيها الأجوبة، وفي متابعة الجدلية القائمة في فصولها، ونسيج الأفكار الواردة فيها، يبقى الشك مثارا ومثيرا باستمرار. لماذا تبقى "عمورية" عالما بلا خرائط؟ و"علاء الدين نجيب" هل له من طريق للخلاص من متاهاتها في اعترافاته الحارة المضطربة المتناقضة، عن مصرع "نجوى العامري" المرأة المدهشة التي تجمع بين هوج السوالمة وشبقهم، وبين حسابات الريح والخسارة التي نشأت عليها في أسرتها ومجتمعها؟

وأين يقع ذلك كله من قصته مع ماضيه، مع أخويه صفاء وأدهم، وخاله حسام الرعد، وعمته نصرت، وأسلافه القرويين والعشائريين وصولا إلى المتمرد الأول فيهم "حمدي سويلم"؟، أم أن ذلك كله جزء من قصته الأخرى، قصته مع المستحيل والجنون، الكامنين في نجوى العامري، في نفسه هو، في عصره، في عمورية كلها؟

بهذا النص الذي اشترك جبرا إبراهيم جبرا مع عبد الرحمن منيف في صياغته إعادة لما كانت عليه الرواية العربية في إرهاصاتها الأولى حينما أبدع الدكتور طه حسين وتوفيق الحكيم رواية مشتركة تحت عنوان "القصر المسحور" في بداية الأربعينات. فكل من جبرا ومنيف كانا يتسلمان خيوط النص لفتح أبواب الذاكرة على مصراعيها لاحتمالات التفاصيل أو التوقع.

فبعد الفصول الثلاثة الأولى التي كتبها جبرا تسلم عبد الرحمن منيف خيوط النص وتماهى في دروب الذاكرة حيث تداخلت وهي في أوجها مع الشخصيات وتدافعت التساؤلات والبحث عن هوية لكل شخصية ترزح تحت ثقل الذاكرة وخيوطها المتدفقة: "تذكرت فجأة ذلك المساء البعيد، وصفاء وبدرية وأمي، والعمة نصرت ونائلة، أما نجوى فلم يكن لها مكان بين هؤلاء، غير أنها اقحمت نفسها فيما بينهم رغما عن إرادتي، لماذا؟

لماذا؟ ما الذي كان بيني وبينها؟ أو بينها وبين أي شخص آخر يهمني؟". لقد كانت الشراكة الإبداعية بين جبرا ومنيف في هذا النص تعتمد على توزيع الفصول وتسليم الخيوط الخفية لأحداث النص كل إلى الآخر، ولعل ملامح الأسلوبية الموجودة في نسيج النص تكشف عن آلية العملية الإبداعية عند كل منهما، وتجسد ملامح الصوتين الكاتبين بجلاء، والقارئ لهذا النص يستطيع وبسهولة معرفة حقول الكتابة الخاصة بمنيف والأخرى الخاصة بجبرا، كما أن مناطق الذاكرة عند منيف تظهر جلية من خلال تفاصيل القهر والأبعاد السياسية المرتبطة بسلسلة الأحداث والشخصيات المحيطة بها.

كما أن الإحاطة بالشخصية والمكان قد ارتبط عند كل منهما برؤيته وأفكاره وإيديولوجيته الخاصة والنابعة من خبرة طويلة مستمدة من أعمال إبداعية سردية سابقة، فنرى منيف قد أدخل النفط وتواريخ الهزيمة والسجن في حقول كتابته، وهذه العناصر تكاد تكون في صلب اختصاص نصه الإبداعي "شرق المتوسط – الأشجار واغتيال مرزوق".

أما جبرا فقد تداخلت القضية الفلسطينية في صلب الأجزاء التي قام بكتابتها داخل النص "البحث عن وليد مسعود" "يوميات سراب عفان". لقد كان نص "عالم بلا خرائط" في مسيرة كل من عبد الرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا تجربة ابداعية فريدة مستمدة من عالمين سرديين يجمع بينهم الحب والود وأيديولوجية القضية.

وفي "خماسية مدن الملح" وهي الملحمة الكبيرة التي أبدعها عبد الرحمن منيف، وقدم فيها خلاصة ما تحويه الصحراء العربية من أبرز المعالم والتضاريس الحية المتغلغلة في نسيج البشر وتوجهاتهم وأحلامهم، ومراحل التقدم والإنكسار فيها، وملامح التغير والتحول، في كل شيء طرأ عليها وداخلها وحولها.

ولعل خير مثال على ذلك هو المفتتح الذي بدأ به عبد الرحمن منيف ملحمته الكبيرة من خلال هذه الدفقة اللغوية المعبرة عن روح المكان: "إنه وادي العيون!!.. فجأة وسط هذه الصحراء القاسية العنيدة، تنبثق هذه البقعة الخضراء، وكأنها انفجرت من باطن الأرض أو سقطت من السماء، فهي تختلف عن كل ما حولها، أو بالأحرى ليس بينها وبين ما حولها أية صلة، حتى ليحار الانسان وينبهر، فيندفع إلى التساؤل ثم العجب كيف انفجرت المياه والخضرة في مكان مثل هذا؟

لكن هذا العجب يزول تدريجيا ليحل مكانه نوع من الاكبار الغامض ثم التأمل". "ص 7" بهذه الافتتاحية المثيرة للدهشة بدأت خماسية "مدن الملح" تفريعاتها، وتضاريس السرد فيها، فثمة مكان لا هو بالمفتوح ولا هو بالمغلق، إنه عالم لا متناهي مليء بالتساؤلات، له منظومة لها قوانينها الخاصة، لذا كانت عناوين تفريعات "مدن الملح" هي المؤسسة للمكان وما يدور فيه من أحداث ومواقف: "التيه – الأخدود – تقاسيم الليل والنهار – المنبت – بادية الظلمات".

إن حضور المكان في هذه التقاسيم وهذه المنظومة الحية من الصحراء والإنسان إنما هو عالم كثيف أصدق تعريف له أنه هو التيه الحقيقي الذي تحول إلى تيه للذات وللإنسان وللواقع المعاصر، وكما ابتدع ماركيز مدينة "ماكندو" في رائعته "مائة عام من العزلة"، ابتدع منيف "حران" و"موران" وهي صورة حية لمدائن النفط في صحراء العرب، وهو يقول عنها: "نحت أسماء أماكن، وصنعت جغرافيا للمنطقة، أنا الذي رسمتها، أنا لا أكتب "رواية تاريخية" ولا أكتب رواية "وقائعية" بالمعنى المبتذل، ولكنني أحاول أن أرى عصري كله: كيف تكوّن، وما هي أبرز المعالم والتضاريس في هذه المرحلة، في هذا الوطن، وأعيد تقديمها في صورة، أراها اكثر نفاذا" "ص 168".

إن ملحمة "مدن الملح" هي العلامة الكبيرة والبارزة في عالم عبد الرحمن منيف السردي، كما أنها هي علامة بارزة أيضا في الجانب المضيء من السرد العربي المعاصر حتى إنه حين فرغ عبد الرحمن منيف من كتابة هذا النص الكبير بعث بالمخطوطة إلى صديقه وزميله جبرا إبراهيم جبرا فكانت هذه الخاطرة:
أخي عبد الرحمن
لا أظن أن كاتبا عربيا – روائيا أو غير روائي – كتب في الماضي شيئا يقارب ما كتبت في هذه الرواية، وبعد أن كتبتها، لا أظن أن كاتبا عربيا سيجرؤ على أن يكتب شيئا مثلها في المستقبل. "في الرواية حس ملحمي لا أعرف مثله في أي عمل روائي عربي، إنه يذكرني بالروايات الكبرى التي كتبت في الغرب في النصف الأول من هذا القرن.

"التأني، الإسترسال، الاتساع المستمر.. تسجيل فترة من تاريخ المجتمع العربي المعاصر.. الانتقال الصعب والموجع من البداوة إلى النفط، لم يلتفت إليها جديا أحد، أو لم يرها بهذا العمق، وهذا الحب، وهذه اللوعة". تلك كانت ملامح رؤية كاتب عن "مدن الملح" هذا العمل الملحمي الكبير الذي أثرى الرواية العربية ثراء متسعا جاوز به عنان السماء.

وفي رواية "الآن .. هنا، أو شرق المتوسط مرة أخرى" يعاود عبد الرحمن منيف الحديث عن مجتمع السجون مرة أخرى وبأدق التفاصيل، وهي على حد تعبيره ليست جدرانا وحراسا وخواء نفسيا وسلطة قمعية، ومراحل قهر وغير ذلك من الممارسات اللاإنسانية، إنما هي نمط حياة جديدة يسعى فيها المجتمع إلى فرض حالة من الموات الذهني والجسدي والفكري، وسلب القدرة على الحلم والتخيل في سبيل إمتلاك الذات والفكر والعقل ونشر حالة من الهيمنة، لتحقيق أهداف خاصة.

وعندما يوغل عبد الرحمن منيف في هذا النص في تشريح البنية السيكولوجية للسجين والسجان معا، فإنما يرمي إلى تصوير الجدران الفاصلة بينهما، وعلى الرغم من اعتماده علي صيغة المخاطب في الرواية، فإننا نجد الكاتب متواري خلف قضبان السجن، ومولود في صدور الذين خارجه، ويتنفسون هواء جديدا في العراء، والنص يبدأ بهذه العبارة: "حين بدا موتي وشيكا.. أطلقوا سراحي، فهل يستطيع من يوشك أن يموت أن يفعل شيئا؟". قد يثير هذا التساؤل جدلا واسعا، لكن مناخ الرواية العام وهو ينطوي على بذور فعل إيمان جديد، قد لا تنبت في المدى المنظور.

وكل ما كتبه عبد الرحمن منيف حول هذا الموضوع ما هو إلا فكره، ولكنها فكرة واقعة روي منها وعنها كل ما أراد أن يقوله، وترك للمخيلات مهمة البحث عن حلول أو أشباه حلول.

وفي آخر رواياته ثلاثية "أرض السواد" يستفيد عبد الرحمن منيف من خصوبة التاريخ على أرض العراق، أرض السواد بكل ما في الكلمة من دلالات ومعاني وتأويلات كثيرة، وما تحمله أيام هذه الأرض من عبق خاص للتاريخ، وسواد لليالي وخصوبة للأرض حسب ما يلقيه عليها تحدي كل من دجلة والفرات من طوفان ومياه تحيل الأرض إلى سواد وخضار، وعقب ما تلقيه عليها الأزمنة من مآسي وقسوة وقهر، والتاريخ في العراق دائما ما يعيد نفسه، وقد اختار عبد الرحمن منيف فترة حكم داود باشا في العراق بعد دخوله بغداد وما صاحبها من مؤامرات ودسائس.

ويعتبر هذا النص من قبيل جدارية كبرى عن حياة العديد من الشخصيات التي انتخبها عبد الرحمن منيف ليقيم بواسطتها دعائم هذا البناء التاريخي السردي الكبير، داود باشا حاكم العراق، بدري ابن أحد تجار بغداد ومرافق الباشا العسكري، أغا الإنكشارية ونهايته الدامية، وقهوة الشط وروادها الدائمون: الأسطى إسماعيل مزين المحلة، سيفو سقاء المحلة والأسطى عواد صاحب القهوة وحسون الفتى الضائع الساذج والملا حمادي إمام جامع المحلة وسواهم.

إن الأحداث التي جسدها الكاتب في أرض السواد هي نتاج صراعات كثيرة يشترك فيها الأنجليزي "ريتش" وعزرا "صراف باشي" الولاية، والقوادة اليهودية "روجينا" وعارف وكيل شركة الهند الشرقية في بغداد وسواهم.

وقد كانت نظرة الحاكم الأنجليزي "ريتشي" إلى داود باشا نظرة ازدراء لذا كان يحاول أن تكون شخصيته قوية ضد خصمه اللدود وكان الصراع بين الرجلين قوي، حيث كان داود يحلم بولاية موحدة قوية مستقلة متحررة من النفوذ الأجنبي، في حين أن "ريتشي" كان يمهد الأرض أمام غزو إنجليزي للعراق، ولأن سياسة الأنجليز الدائمة والمعروفة هي سياسة "فرق تسد"، فقد حاول ريتشي تأليب بشوات العراق في الموصل وكردستان علي باشا بغداد "داود باشا".

إن الأحداث التي جسدها عبد الرحمن منيف في روايته الأخيرة أرض السواد هي أحداث شبيهة بما يحدث في العراق الآن، لذا فإن هذا النص الروائي التنبؤي قال ما قاله التاريخ، والشخصيات في هذا النص كما هي في كل نصوص عبد الرحمن منيف إنما هي تنبع من خلال تجسيد الواقع وإعادة صياغة وقائعه لتتضمن فكر ورؤى الكاتب وايديولوجيته الخاصة.

فالشخصيات في عالم عبد الرحمن منيف تتشكل دائما من نبع الذات الكاتبة وتنغرس بكل ما تحمل من رؤى وأفكار داخل النص لتؤدي وظيفتها السردية عبر رؤية الكاتب وفكره الخاص، لذلك نجد الشخصيات الفاعلة المقموعة، والسجينة، والمتحررة والمهمشة ترد داخل النص عبر استراتيجية تؤسس لتشكيل الفعل المنوط بها، وشخصيات عبد الرحمن منيف تبرز على الورق وكأنها شخصيات مرجعية تنطق بأفكار الكاتب وايديولوجيته المنبثة داخل نصوصه السردية.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو هل كانت بعض شخصيات عبد الرحمن منيف هي نفسها عبد الرحمن منيف، هل هو "منصور عبد السلام" في "الأشجار واغتيال مرزوق" و "رجب إسماعيل" في شرق المتوسط، و"زكي النداوي" في "حين تركنا الجسر" و"عساف الفهد" في "النهايات"، وهل هو "علاء الدين نجيب" في "عالم بلا خرائط"، و"صبحي المحملجي" في "مدن الملح" و"طالع العريفي" في "الآن .. هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى"؟

هل تقمص عبد الرحمن منيف شخصياته وقال من خلالها كل ما كان يريد أن يقوله، أعتقد أن هناك نسبة كبيرة من الإضاءة التي وضعها منيف في أعماله السردية تنبع أساسا من عبد الرحمن منيف ذاته، لذا كانت الشخصيات الروائية هي المرآة التي من الممكن أن نرى فيها ومن خلالها عبد الرحمن منيف الكاتب والرواي في نفس الوقت، وفي ذلك يقول: إن الواقع الاجتماعي مفتوح على الاتجاهات الأربعة ويمكن التقاط المادة الروائية من هذا المنجم الكبير بسهولة. ولأن الفقير يحس آلام الفقراء ويعرف عمومهم.

ولأن الشقي يعرف أسباب الشقاء ويحاربه، ولأن المطاردين يخافون من الأشباح ويتجنبون الاقتراب من المقابر والأماكن الموحشة فإن الذي عاش مع الفقراء وغرق في الشقاء ويخاف كل وقت من سحب جواز سفره، لا يحتاج إلى الكثير من الروابط المحلية لكي يقول ما عنده كما لا يخاف الانتقال من حالة إلى حالة أخرى".

____________________

المراجع
- نصوص روايات عبد الرحمن منيف حسب ورودها في الدراسة.
- الكاتب والمنفى/مقالات وحوارات ومقابلات، مجموعة من الكتاب، دار الفكر الجديد، بيروت، 1993
- عالم عبد الرحمن منيف الروائي.. تنظير وانجاز، صبحي الطعان، دار كنعان للدراسات والنشر، دمشق، 1995
- عبد الرحمن منيف.. حين تركنا الجسر، رمزية المرأة في الرواية العربية، جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 1985
- حوار مع عبد الرحمن منيف، نعمة خالد، الجديد في عالم الكتب والمكتبات، بيروت، ع 12، شتاء 1996
- ثورة الغضب، سليم عنتوري، الموقف العربي، نيقوسيا، ع 521 س 12، 13/4/1992 ص 49
- حوار مع الدكتور عبد الرحمن منيف، أصوات الصمت .. أحاديث أدبية، يوسف القعيد، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1991 ص 113
- حوار بين جبرا ومنيف والسامرائي، شخصيات ومواقف، ماجد السامرائي، الدار العربية للكتاب، ليبيا/تونس، 1978ص 75

المصدر: العرب أون لاين

قد يعجبك أيضا...

أضف هذا الخبر إلى موقعك:

إنسخ الكود في الأعلى ثم ألصقه على صفتحك أو مدونتك أو موقعك

التعليقات على الرواية السياسية عند عبد الرحمن منيف (1)

أحلام‏26 ‏أبريل, ‏2010

يعد هذا العمل من أحسن الأعمال لأنه عالج موضوعات الإنسان العربي من خلال إبداع عبد الرحمن منيف بالإضافة إلى أنه ساعدني في مذكرة التخرج فشكرا على هذا المجهود

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
57904

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري