آخر الأخباراخبار الفن والثقافة › الوجود في العالم عند موريس ميرلوبونتي

صورة الخبر: الفلسفة الفينومينولوجية تتمثل في "العودة إلى الأشياء ذاتها"‏
الفلسفة الفينومينولوجية تتمثل في "العودة إلى الأشياء ذاتها"‏

زهير الخويلدي*‏: ‏"إن خيارنا الحقيقي هو خيار طبعنا الكامل وطريقتنا في الوجود في العالم" [1] ‏

‏"ليس للفلسفة وظيفة أخرى غير تعليمنا الرؤية الجيدة للأشياء وللوضعيات التاريخية. ويبدو صحيحا القول أنها ‏تتحقق عندما تهدم نفسها كفلسفة منفصلة."[2] ‏

إن الفلسفة الفنومينولوجية هي كشف للعالم وتحديد لموقع الإنسان فيه وليس لها من وظيفة أخرى غير ‏تدريب الإنسان على التبصر الجيد في الوجود والاعتبار من المنعطفات التاريخية، ومن أجل ذلك نراها ‏تنهض في سبيل الإجابة عن سؤال ما الرؤية؟

وما معنى العالم الذي نراه من خلال هذه الرؤية؟ وتحاول ‏إعادة تعليم الإنسان رؤية العالم، كما ترتكز على نفسها في حوارها مع العالم أو بالأحرى تعتمد على نفسها ‏لتوجه إليها كل الأسئلة التي توجهها لكل المعارف الأخرى، فتصبح حوارا أو تأملا لا ينتهي، فهي تلتقط ‏المعنى وهو عند حالة الولادة، فتكون حركة ومثابرة تبعث على الانتباه والتعجب ولا تركن إلى أي عقيدة أو ‏نظام،فتتضاعف بهذا إلى ما لا نهاية.

وهذا الطابع المبتدئ على الدوام وعدم اكتمالها ليس علامة فشل بل ‏علامة على تقدمها وتحفزها وبقدر ما تبقى أمنية لهذا القصد فإنها تظل الصراط المستقيم نحو تحصيل السعادة ‏والفوز بالمعنى أو الأفق الوحيد لفهم سر العالم وكشف لغز التاريخ.‏

يمحص ميرلوبونتي تعريف الفلسفة كما تلقاه عن هوسرل وهي الفنومينولوجيا التي يعرفها بأنها:" دراسة ‏جواهر الأمور وكل المشاكل بالنسبة لها تعود إلى تعريف الجواهر: جوهر الإدراك، جوهر الوعي، مثلا. ‏

ولكن الظواهرية هي أيضا فلسفة تعيد وضع الجواهر في الوجود ولا نعتقد بأنه من الممكن فهم الإنسان ‏والعالم من غير الانطلاق من حدثيتهما"[3] ويسترسل ميرلوبونتي إضافة في التعريف وإبانة في حدها ‏قائلا:"إنها فلسفة التعالي تضع جانبا تأكيدات الموقف الطبيعي من أجل فهمه... إنه طموح الفلسفة إلى أن ‏تصبح علما صحيحا وهو أيضا عرض للمكان والزمان والعالم التي نعيشها. إنها محاولة وصف مباشر ‏لتجربتنا كما هي بغض النظر عن أصلها النفساني وتفسيراتها السببية."[4]‏
العالم ليس الذي أفكره بل الذي أعيشه وليس الذي أسيطر عليه بل الذي أنفتح له وينفتح لي أتصل به بلا شك ‏ولكنني لا أمتلكه فهو غير قابل للفناء أما التاريخ فليس الذي يمشي على رأسه ولا الذي يفكر بأقدامه بل جسد ‏التاريخ ذاته أو عمقه خصوصا وأن الفلسفة وجهة نظر أو اتحاد موقف للذهاب إلى التاريخ بدمه ولحمه فهي ‏تتحقق فعليا وتستوفي شروط واقعيتها عندما تهدم نفسها كفلسفة منفصلة وآيتنا في ذلك أن الفيلسوف لا يحتاج ‏أبدا إلى فصل الفلسفة عن التاريخ حتى يبقى فيلسوفا بل يكفي أن يبرز في فكرة تأثيره في العالم حتى يكون ‏ذلك الشاهد غير المنحاز والشهيد الملتزم الذي يحقق في الوجود مشاريعه الخاصة والذي يأخذ مصيره بنفسه ‏وبيده فيصبح مسؤولا عن التاريخ لا بالفكر بل بالقرار الذي يلزم فيه حياته لقيمه ويؤكد ذلك بالممارسة وهذا ‏القرار يتجسد في وجوده الحر أو حريته الوجودية. ‏

الوجود في العالم هو حضور متعين باللحم في الكون وهو ارتباط بأمنا الأرض و"الأرض مركز العالم ‏وعموده والأرض بيت الآلهة ورحم الممكنات والأرض مصدر الحركة والسكون اذ هي أرومة ومعلم، ‏والأرض فردوس المعنى وموطن الاستضافة وليست جسما أو مجرد فلك من الأفلاك بل هي الفلك". [5]‏

هكذا "فإن نمط التفلسف الوحيد الذي بحوزتنا لن يكون سوى ضربا من التحرر الجذري من أوهامنا عن ‏أنفسنا والعودة الفينومنولوجية إلى العالم المعيش وإلى العصر في عيانيته والإنصات إلى نبضاته وما يختمر ‏في دواخله". فما الفرق بين النظرة والرؤية؟ وكيف يمكن تجاوز الموقف الطبيعي والرؤية العفوية للعالم نحو ‏رؤية فنومينولوجية له؟

حقيقة الرؤية
‏"إن حقيقة إمكانية معينة ليست سوى إمكانية الحقيقة، وفكرة الرؤية ليست سوى رؤية في الفكر ولن نملكها إذا ‏لم نملك قبلا الرؤية حقا."[6]‏

إن النظر يمكن أن يتم من مكان معين دون أن ينغلق في وجهة نظر معينة دون أخرى، فأن نرى لا يعني أننا ‏ننظر أو نشاهد، إن رؤية الشيء تعني إما أخذه على هامش الحقل البصري والتمكن من التركيز عليه وإما ‏الإستجابة فعليا لهذا الإغراء والتركيز عليه فعندما أركز عليه فإنني أتعلق به.

و لكن هذا التوقف للنظر ليس ‏سوى شكل لحركته : إنني أستمر داخل الشيء بالاستكشاف الذي كان يتجه قبل الآن نحو جميع الأشياء و ‏بحركة واحدة أقفل المنظر و أفتح الشيء إنه من الضروري إبقاء المحيط مموها لكي أرى الشيء بشكل ‏أفضل و أن أخسر في العمق ما أربحه في الصورة لأن رؤية الشيء تعني الغوص فيه وأن الأشياء تشكل ‏منظومة بحيث إن أحدها لا يمكن أن يبرز دون أن يخفي الأشياء الأخرى و أكثر تحديدا فإن الأفق الداخلي ‏لشيء لا يمكن أن يصبح موضوعا دون أن تصبح الأشياء المحيطة أفقا, فالرؤية هي فعل ذو وجهين . ‏

‏"إذا كان التفكير يبغي تبرير نفسه كتفكير أي كتقدم نحو الحقيقة فعليه ألا يكتفي باستبدال نظرة عن العالم ‏بنظرة أخرى، عليه أن يبين لنا كيف أن الرؤية الساذجة للعالم هي مفهومة ويجري تجاوزها في الرؤية المفكر ‏بها. فالتفكير يجب أن ينير ماهو غير مفكر به والذي يليه وعليه أن يبرهن عن إمكانيته لكي يستطيع أن يفهم ‏ذاته كبداية"[7].‏

إن النظر إلى الشيء يعني الدخول في عالم من الكائنات التي تبرز وهي قد لا تبرز إلا إذا كانت قادرة على ‏الاختباء وراء بعضها البعض أو ورائي وبعبارات أخرى إن النظر إلى الشيء يعني الحلول فيه ومن هناك ‏مواجهة كل الأشياء وفقا للوجهة التي تديرها نحوه ولكن بما أنني أراها هي أيضا فإنها تبقى أماكن مفتوحة ‏لنظري وبحلولي نظريا فيها فإنني بالتالي أرى الموضوع المركزي لبصري الحالي من زوايا مختلفة. ‏

إن الإدراك الحسي هو الرؤية الفنومينولوجية للعالم وهو مكمن الغموض الذي يخفي سر امتداد الإنسان في ‏العالم وامتداد العالم في الإنسان و"إن ما به ننتمي إلى الأرض هو أجسادنا. ف"نحن لسنا ملائكة بل كائنات ‏أرضية من لحم ودم. نحن قبل كل شيء أرضيون وقاطنون للنقطة الأسفل في الكون كله والتي هي مستودع ‏كل أنواع التأثيرات المتأتية من أعلى"[8].‏

الأرض تربة التواصل كما يقول الأستاذ العيادي وهي زاوية النظر التي يشيع من خلالها المرء بصره نحو ‏الدنيا، "فإذا قررت رؤية الأشياء حتى من زاوية نظر عالية جدا فإنني ألجأ لفعل ذلك أيضا، إلى تجربتي ‏الأرضية، وبذلك تكون الأرض هي المعلم وحتى لو افترضنا وجود أرض أخرى مع إمكانية الإقامة فيها فإن ‏ذلك لا يؤدي إلى مضاعفة المرجعية أو تحويلها أو تغييبها أو إلحاقها بالمواقع الجديدة بل تلك المواقع هي ‏التي تجد مرجعيتها في الأرض."[9]‏

وهكذا فكل شيء هو مرآة جميع الأشياء الأخرى وإن كل أشياء العالم التي تلتقط و كأنها متعايشة لأن كل ‏واحدة منها هو كل ما تشاهده الأشياء الأخرى منه لذلك فإن الصبغة التي أعطيناها يجب أن تتغير: فالشيء ‏المكتمل شفاف فهو مخترق من جميع الجهات بعدد راهن ولا متناه من الأنظار التي تتقاطع في عمقه ولا ‏تترك فيه أي جانب خفي.

ولكن نظري البشري لا يطال مطلقا من الشيء إلا وجها واحدا حتى ولو كان ‏بواسطة الآفاق يهدف إلى التقاط جميع الأوجه الأخرى فهو لا يمكن أن يقابل أبدا بالنظرات السابقة أو ‏بنظرات الأشخاص الآخرين إلا بواسطة الزمن واللغة.

‏"أن نرى وفق الأشياء وأن لا ننساق إلى الرؤية وفق القائم من الأمر معناه أن نعود إلى التلقائي أو العفوي أو ‏إلى نبع المعنى الخام الذي ينهل منه الفن مثلا."[10]‏
إذا كان يجب أن يكون هناك شيء مطلق فمن الضروري أن يكون هناك عدد لا متناه من وجهات النظر ‏المختلفة والمجتمعة في تعايش بالغ الدقة وأن يعطي ذلك برؤية لها آلاف من النظرات. لكن بأي معنى يكون ‏الإنسان حرا طالما هو موجود في العالم؟ أو بالأحرى كيف يتحول الإنسان من كائن لذاته إلى كائن في العالم ‏؟ كيف يمكن أن نرى الحرية عند الإنسان من حيث هو كائن في العالم؟

وجود الحرية‏
‏"حريتك لا يمكن أن تتحقق إلا بالخروج من فرادتك ودون أن تريد الحرية."[11]‏
إذا عدنا إلى وجود الحرية محاولين رؤيتها عند الإنسان أو رؤية الإنسان وهو حر في العالم فإنه علينا أن ‏نكتشف أصل الحرية في قلب تجربتنا بالذات وأن نصف ظهور الحرية وأن نفهم بشكل مفارق كيف يوجد ‏بالنسبة لنا الإنسان الحر الكائن لذاته دون أن نعطي حكما مسبقا ودون أن نأخذ الحرية بحرفيتها ودون أن ‏نطرح عليها أسئلة لا تطرحها على نفسها أي أن نصنف تجربة الحرية كما يعيشها الإنسان في العالم باندفاعه ‏وحيرته وتهربه وفي تحديد للغة والزمان والمكان وكل تحديد موضوعي.‏

‏"إن حريتي، القدرة الأساسية التي أملكها بأني فاعل "ذات" لجميع تجاربي، ليست متميزة عن انخراطي في ‏العالم. انه مصير لي أن أكون حرا وأن لا أستطيع إلى أي شيء مما أعيشه، وأن أحتفظ تجاه أي وضع قائم ‏بملكة التراجع، وهذا المصير قد ترسخ في اللحظة التي انفتح فيها حقلي المتعالي وولدت لرؤية ومعرفة ‏وقذفت إلى العالم."[12] ‏

لكن هل هناك حدود للحرية بالفعل؟ ‏
‏"إذا أخذت نفسي في تكثفي في المطلق وكما يعطيني التفكير لنفسي، فأنا سيل خفي وسابق للإنسانية لم أكتسب ‏صفة بعد"[13]‏

يرفض ميرلوبونتي أن تتحدد الحرية بالانتصار على نقيضها وعلى ما يضادها لأنه لا توجد أية علاقة سببية ‏بين الذات وجسدها وعالمها أو مجتمعها فعندما تتوجه الذات على التو نحو نفسها قصد الحضور في ذاتها ‏تلحظ سبيلا خفيا ومشروعا شاملا حيث ليس ثمة بعد لحالات الوعي إلا هذا الشعور بأنها تتعدى صفاتها و ‏بأنها تخضع لها أليس الحرية هي الثمن الذي تدفعه الذات لكي تكون في العالم؟ فهل هذا التأفف والانزعاج ‏والقدرة الهائلة على الهروب هي أمارات الحرية؟ ‏

‏"ما كان الاقتلاع الأزلي الذي بدأنا به تحديد الحرية ليس مجرد وجه سلبي لالتزامنا الشمولي في عالم معين ‏إذا لم تعبر لامبالاتنا تجاه كل شيء محدد عن انخراطنا في الأشياء جميعا وإذا لم تتحول الحرية الجاهزة التي ‏انطلقنا منها إلى قدرة مبادرة قد لا تستطيع التحول إلى صنع دون أن تستعيد بعض اقتراحات العالم، وإذا، ‏أخيرا، لم تكن الحرية الملموسة والفعلية في هذا التبادل"[14].‏

يبرهن ميرلوبونتي على وجود حرية جذرية لدى الإنسان تسبق تموضعه في العالم مؤكدا أنه لكي يتمكن شيء ‏ما من أن يحددني من الخارج يجب أن أكون شيئا "فالإنسان ليس حرا في بعض الأوقات وعبدا مقيدا في ‏البعض الآخر بل إنه حر بشكل مطلق وجذري لا فقط لأن وجوده يسبق ماهيته بل لأن "حريته وشموليته لا ‏تقبلان هذا الاختفاء" فإما أن يكون حرا أو لا يكون و"ليس معقولا أن أكون حرا في بعض أفعالي و محددا في ‏الأفعال الأخرى : ماذا ستكون عليه هذه الحرية المعطلة التي تترك الحتميات تفعل فعلها ؟ فإذا افترضنا بأنها ‏تلغي عندما لا تفعل فمن أين تخلق من جديد؟"

إذا أصبح الإنسان حرا ولو لمرة واحدة فقط فهذا يعني أنه ليس في عداد الأشياء بل في عداد الكائنات وعليه ‏أن يبقى كذلك بلا انقطاع . فإذا بطلت أفعال الإنسان أن تكون خاصة به ولو لمرة واحدة فقط فإنها لن تعود ‏أبدا وإذا فقد سيطرته على العالم فإنه لن يستعيدها أبدا، وينفي ميرلوبونتي أن يتم الحد من هذه الحرية المطلقة ‏والجذرية بأي اسم كان سواء باسم السببية أو باسم الدافع أو باسم الفعل الإرادي.

لأنه لا يمكن أن نكون ‏أحرارا قليلا و بالتالي فالحرية إما أن تكون مطلقة أو لا معنى لها "إن الحرية في كل مكان وهي أيضا ليست ‏في أي مكان" ويدعو إذن إلى التخلي عن فكرة السببية وفكرة الدافع.‏

انظر ماذا يقول ميرلوبونتي في هذا الإطار:"إن تعبي يوقفني لأنني لا أحبه ولأني اخترت طريقة كوني في ‏العالم بشكل مختلف ولأنني مثلا لا أسعى إلى أن أكون في الطبيعة بل أسعى بالأحرى إلى أن أنال اعتراف ‏الآخرين. أنا حر تجاه التعب بالقدر ذاته الذي أكون فيه حرا تجاه كينونتي في العالم وحرا في متابعة طريقي ‏شريطة أن أغير هذا العالم"[15].‏

‏ لكن كيف يسمح الوجود الحر للإنسان بأن يكون موجودا في العالم وأن يغيره في الآن نفسه؟ أليس الطموح ‏إلى التغيير يقتضي الخروج من العالم الطبيعي إلى العالم الانساني؟ ثم ماهو دور التاريخ في عملية التغيير؟ ‏ألم يقل ميرلوبونتي:" ان التاريخ لا يمشي على رأسه ولكن صحيح أيضا أنه لا يفكر بأقدامه.

والأصح من ‏ذلك علينا ألا نهتم برأسه ولا بأقدامه بل بجسده."[16]؟ أليس التاريخ هو الذي يعزز وجودنا في العالم ويمنح ‏أفكارنا و أفعالنا وأقوالنا معنى؟

المصدر: العرب أونلاين

قد يعجبك أيضا...

أضف هذا الخبر إلى موقعك:

إنسخ الكود في الأعلى ثم ألصقه على صفتحك أو مدونتك أو موقعك

التعليقات على الوجود في العالم عند موريس ميرلوبونتي

كن أول شخص وأضف تعليق على هذا الخبر الآن!

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
56410

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري