آخر الأخباراخبار الفن والثقافة › «الجنائن المغلقة».. رواية فتحت بواباتها نحو سماء بلا حدود 2/2

صورة الخبر: «الجنائن المغلقة».. رواية فتحت بواباتها نحو سماء بلا حدود 2/2
«الجنائن المغلقة».. رواية فتحت بواباتها نحو سماء بلا حدود 2/2

هل في ذلك الصوت البعيد إيحاء ضمني لتقطيع عدنان إلى أوصال في ستوكهولم؟ ومن ثم فرارها "النساء قويات، لأنهن يرين الدم كل شهر بعادتهن الشهرية" فسّر خالد ذلك، ومن مفاتيح اللغز التي تبقى ترن في مخيلة القارئ انه حين قال "خالد" لها إن معظم تاريخ الجرائم من حصة الرجال، استدركت غالا بلا مبالاة: "ربما لأن جرائمهن لا تُكشف" بعد ذلك ينقلنا المؤلف إلى عدنان.

هذه الشخصية المتمرسة في العنف، منذ كان شابا في الحرس القومي، إلى أن أصبح قنصلا في السفارة العراقية في موسكو، يقدم لنا جوابا لأسئلة محيرة حول مسيرته الطويلة المتعثرة وشعوره "بدل الثقة والكبرياء وقوة الشخصية.. بتفشي مع الأسف الشك والخوف والرذائل" هو الشخص الذي ساهم في بناء شبكة عنكبوتية لسلطة، ثم أصبح متذمرا لاعنا الوضع الإداري كله، حيث لم يعد يعرف فيه "مَن مسؤول مَن" إذ ذاك يكشف الكاتب التكوين الاجتماعي لهذه الشخصية، منذ أيام طفولة بائسة، ابن قرية فقيرة مفلطح قدمين، من المشي حافيا، حتى ينقلنا بروية إلى أواخر العهد الملكي، إلى العلاقات الاجتماعية الرصينة إذاك، تمثلها شخصية نقية اسمها "سالم عبد الستار" يرفض الرشوة، يحرص على سمعة وتربية عائلته، ويكشف من خبايا تهريب الآثار انه نفس المجتمع المتناقض، الهابط نحو فساد.

فيضع مسافة بينه وبين شروره، لا يدع زوجته تدخل بيت الوجيه بيك ذياب، عسى أن لا يتلوث، لكنه مجتمع قهّار، مشتبك الخيوط، يجابهه "عدنان" بتحد أكبر، بكبر ما نال منه، حين يَنزل بل يُنزل إلى مرجله عنوة، منذ عبثوا بشقيقته، وعنوة يصبح مثله خليطا من خير وشر، حتى يدرك أخيرا إن الحياة الجميلة، التي كانت مليئة بالسمو والنبل والشجاعة بداية الثورة، غدت في نهايتها حقل ألغام، يعود إلى بلده مودعا تلك الحياة بأسى، مرحبا بأيام الشقاء، وهو في شجاعته المعهودة، مدركا عدم توازن اللعبة حوله، عليه أن يفعل شيئا لإنقاذ نفسه، وربما البلد في آن، فهل يتمكن فرد بلوغ مناه دون تصور شامل للوضع حوله؟ غير محتمل، ترينا الرواية.

بلد النفط والفوسفات يجب أن يتصدى للتوسع الأجنبي، ليجاري بورصة وول ستريت، هكذا تحوِّل الظروف "عدنان" إلى حكيم، يلمح إن كل كلام عن قيم قديمة مضيعة للوقت، الكل يدافع عن مصلحته، القيم نظام ولا شيء يقوم بدون نظام، إنها ثنائية الخير والشر واستمرار تداخلهما في الحياة "مصيرنا لا يولد معنا ولا يصادفنا على الطريق، بل هو قارب، تصنعه في جزيرة وحدتك، بنفسك لنفسك، إذا أردت النجاة".

بموازاة ذلك يغوص عدنان في علاقته الآثمة مع رباب، في بحر من حب مصحوب برذيلة، متناسيا أو مطفئا ألمه وندمه بالتي كانت هي الداء، وربما الدواء، تتحول علاقته معها إلى نوع من إدمان، وهي بأساليب الإغراء المتنوعة التي تمارسها معه تتحول إلى شبه عاهرة. مع العري والتهتك يجد ضالته لغسل أحزانه، وقبل سفره عنها تصارحه بحملها الثاني، حيث الخطأ يولد خطأ، ولا سبيل هناك غير الاجهاض، كما يحدث حين تُجهض ثورة برمتها.

يحركنا الكاتب بعد ذلك بنقلة رمزية إلى بغداد، حيث يُستدعى "عدنان" لمقابلة رئيس الجمهورية، ومع المشاعر المتناقضة له إذاك تدرك مدى الخوف الذي يتعرض له أكثر المواطنين إخلاصا للدولة وإيمانا بقائدها في غياب القانون، لجة من الشكوك ومتاهات التفتيش، يسترجع عدنان على عتبة ذلك اللقاء التاريخ البعيد لنشوء الإنسان وتطوره، مرآة مغبشة لحال هو فيه، مليون سنة مرت منذ بدأ مخيخ "لوسي" الحبشية، نصف مخنا، يكبر، ويكبر، وها أن تفاهم آدمي مع آدمي شبه معدوم، حيث يسود الإرغام والقسر، فتفاهم مع رئيس، لا يأخذ ولا يعطي، يعني تنفيذ أمره، يعني كلاما حسب هواه، أي مضاعفة الخطأ بآخر في غياب العقل.

في ساعة متأخرة من ليل
ومن فحوصات الصدر بالأشعة إلى فحوصات الأعضاء التناسلية يقرف "عدنان" المغالاة خرجت من كونها حماية إلى ترهيب، رغبة لتغطية خطأ، أصبح يشك حتى بنفسه، يراها عنصرا مشبوها، لكن العقل فيه يبقى يدافع عنه، ضد عقل متجبر خارجه، كاشفا عن عالم حولنا متصارع بكل الوسائل، من غير فقدان بوصلته الإنسانية عند مدرك: "العظمة ليست في سحق الآخرين، بل في استيعاب رغباتهم والتعبير عنها.
النظام المجبِر على صمت آلة كارثة" وبعد سلسلة من المقابلات والنظرات الفاحصة، من عقداء ومستشارين أمنيين ومرافقين وأقرباء للرئيس، ومزيد من خضات ونظرات لوم وعنجهية وكبرياء مبالغ فيه، يتمكن عدنان من مقابلة وكيل المطلق، له محفّز ومعادل حتما في زاوية أخرى من الوجود البشري، حسب قانون لكل فعل رد فعل، رغم إهمال البعض لشرطه الثاني، و إلاّ ما ظهر هذا هنا لموازنته، واقفا على مبعدة مترين عنه، أشار لعدنان ليجلس، ومن وراء المكتب قبالته يبدأ الاستنطاق، لا المقابلة، كأنه في حضرة رجل أمن وقاض وفيلسوف وحاكم اجتمعوا في واحد، يستفهم صدام من "عدنان" عن رأيه بهدوء الجبهات، يفسرها هذا بهدوء معارك العقول عادة، المجدية لو كانت بين: "عقلنا وعقل العدو".

والفضيلة لو ما دعمتها قوة برأي صدام لا قيمة لها.. تجرفها الرذيلة، وترينا الرواية، وهي الوحيدة بعلمي قدمت "صدام" شخصية روائية واقعيا، أي بوجهيها الإنساني العادي والمتشدد، وكيف يستدرج رجلا من رجاله على وشك الانشقاق عنه إلى حقيقة ينبع منها النظام، وبالتالي القيم، وهي: الإخلاص، كما يلمِّح له في المقابل بعقاب شديد، مألوف لأجهزة الكتمان، أبسطه "الأذن التي لا تسمع جيدا نقطعها، واللسان الذي لا ينطق صحيحا نقصه" كما يلوِّح صدام لعدنان "الطبعة الأولى للرواية عام 2000" إن تغييبه يعني: فقدان المنطقة مَن يدافع عنها.

وبين المرارة والتحدي واختبار محدثه يقدم الرئيس مسدسه الخاص إليه، يطلب منه رميه، ليرى التاريخ.. مَن يعده يتصدى لأعداء الأمة؟ ثم يعمد لدعوته حين يشك في إخلاص عدنان، إلى حفلة إعدام صديقه "إياد" فماذا تبقى من دراما القهر والتشتت هذه، غير قتل الصديق ورفيق العمر، لا لشيء سوى لأن غياب العقل يحوّل نابذيه قتلة، ودخول الأجنبي يجعلهم نكرات، منوها بذلك لضرورة التغيير قبل الغزو بأي ثمن، حتى لو بتنح عن السلطة.

في ساعة متأخرة من ليل كالح يُساق عدنان إلى القصر الجمهوري، في الطريق يكفر بعنجهيات رؤساء وساسة لاعبين بمصائر بشر، يدرك أخيرا إن خشونة الصبي المترعرع بتشجيع وإعجاب لها من الأقربين تنتهي بعنف، بذلك الحجم الجمعي والاتساع، حيث يتلقى الأهل قبل غيرهم في المستقبل مردود ما وظفوه في بنك أوهامهم في الماضي.

يقابله صديقه "إياد" قبل لفظ أنفاسه الأخيرة بآخر كلمات مذبوح الصوت من الألم "كن من تكون، هنيئا لك ولغيرك هذا العالم الذي تعيشون فيه" ويقتل عدنان ما تبقى من روحه، من إنسانيته، يشرب قدح حقارة إلى منتهاه، تدوي الطلقات منفلتة من عقال عقله هو طالب العقل: "طراخ! .. طراخ! .. طراخ!" على درب مختار أصبح لمحتار، غابت عنه المشورة والشفافية واليقين، لم تعد تنزل عليه إمطورة منعشة، لحب الزوجة والأخ والقريب والصديق "إنه درب العدم والمطلق والرجاء الكاذب، فأية سفاهة كبرى تبدّى عنها هذا الوجود!" تلك هي صيحة برهان الخطيب الوجودية البعيدة التي يطلقها هنا في نهاية هذا الفصل، في أمل لدحض العبث السياسي قبل الميتافيزيقي، سعيا لإعادة ترتيب الوضع العراقي ومعه العربي، وربما العالمي، على سكة متجهة نحو المستقبل، لا الماضي.

منزل الغريب والبلابل
بعد عقد ونصف من الكتابة والدراسة والعمل في الترجمة في بلد الاشتراكية الأول، حيث العدل والمساواة واللا طبقية وقيل أكثر، يُرمى "خالد" مخفورا خارج الحدود، لا لشيء سوى لأنه رفض أن يعطي من نفسه ما جعله يغادر بلده سابقا، في لعبة قوى خفية همها إحكام قبضتها على ناشطين، وبهم، على عالم أكبر. فأي إحساس بهزيمة عانت تلك القوى منه في مواجهة فرد، تبدى أكبر منها، بتمسكه بحريته مع إدراكه: "في بؤرة عالم محترب لا وجود لخط وسط، عالم تأليه الفلس الذي استهان به".

كما هناك في بلده آلاف العراقيين انتزعت منهم مثله وثائقهم وهُجروا إلى خارج الحدود، وآلاف أخرى سيقوا كخراف إلى حرب ضروس، وإزاء الأزمة يراود خالد إن الخلاص في عالم الفلس بـ "نفس أخرى لها رصيد في جيب أو بنك، حينه يكون السعي إلى البقاء والرصيد أطغى، من غير جمال حقيقي وأخلاق عالية" حيث أينما تخطو القدم تجد الشك يحيطك، مبينا بذلك أن للإنسان المعاصر مأساة، ظاهرها عدم السماح له بأن يكون متفردا، وفي تفكيره حرا، عليه أن يصدق أكاذيب، يكون جزءا من كل غافل عما يجري، و إلاّ فالثمن الذي يدفعه باهظ "كيف سولت لأولئك المتحضرين أنفسهم أن ينفوه بتلك الطريقة الهمجية عن عمله وابنه".

وإذ يعمِّق الألمُ الوعيَ يصبح اليأسُ مكافئا أحيانا لتخلص النفس من وهم، حيث لا وجود للعقل المجرد في حياتنا وسط ركام تخلفنا سوى لدى مستفيدين من ذلك "تحتاج فكرتك مجتمعا لتنمو فيه" وذلك ما يجعل فردا عند النكوص ضد رغبته ماسوشيا، إنه النقاء الداخلي، عدم رغبته في إيذاء الآخرين، عدم قدرته أن يكون جزءا من آلة نظام تؤذي الآخرين.. كن شيوعيا أو بعثيا أو قوميا أو اسلامويا يكون لك ناسك ومريدوك، لكن إن تكون نفسك يحاربك الكل، فهل "الحضارة قذارة ملفوفة بسلوفان جميل" أو أن الأديب ليس من يَفهم الناس، بل مَن يحاول إفهامهم نفسه، المشذبة، المدركة، ضمنا رسالة استثنائية، كـ "الجنائن المغلقة" التي تظهر مفتوحة أمام طلاب التأمل في مروج فسيحة؟!

من خلال بقية الأبطال نرى أن العراق كانت تديره حكومة ملكية، حينه انتشرت في العالم موجات ثورية واشتراكية، ثم غُيرت الملكية وتعالت صيحات القومية والوحدة العربية إلى ما بعد 8 شباط 1963 وفي أقل من عام أعقبت قوى معتدلة، تمهد الطريق لتغيير آخر، ثم عاد البعث، ومن تأميم النفط دخل البلد متاهات الحرب والجوع نحو قبضة الاحتلال، اشتباك قوى عديدة أوجزه خالد: "الشيوعيون صراعهم صراع مصالح، والسلفيون صراع قيَم، والقوميون صراع على مناطق نفوذ، والكل يضيع منجزه حين يتصارع على مكاسب آنية" حتى نجد الكاتب على مذهب غراهام غرين، يحوِّل بطله اللا منتمي من إنسان لا دخل له في الصراع إلى ذي رؤية، في بؤرته، حيث يكتسب فهما أعمق للصراع.

إنها ليست الاستقلالية إذن بمعناها الساذج، بقدر ما هي غور في الحلم الإنساني المتفاعل مع الوجود، الاجتماعي والميتافيزيقي، لتأسيس جنائن مفتوحة للجميع على كرتنا الأرضية، وقت يوصدها بوجه العامة دعاة حرب من رأسماليين وصهاينة، والنتيجة يكبح مثقفون وحزبيون ومتعلمون طموحاتهم تحت وطأة الضرورة، نحو مهادنة، إلاّ اللا منتمي من هذا النوع، لأنه يمتلك رؤيته الخاصة للعالم، وذلك مجد لديمومة الحلم وانتشاره، ويمنح هذه الرواية سمة خاصة كونية.

في دمشق يبدأ فصل جديد من حياة "خالد" المتعرجة، يكشف الكاتب خلاله عن حال العراقيين في مهجر عربي، عن طبقة جديدة من الأفراد، جلهم لجأ إلى الفكر الديني، يلتقي خالد أبناء بلدته الفيحاء، هاربون، مهجرون، فنانون، سياسيون، بعضهم انحدر إلى عهر، وحينما يلتقي عمه "عبد الصمد" يتجاوزه هذا لأن "خالد" لم يكن يوما مرتزقا، يتجنب الانخراط في صفوف معارضة تغلّب الثانوي على الرئيسي، حمراء خضراء بنفسجي صفراء، كل ألوان الطيف الشمسي، لكنْ، أيٌّ بمفرده لا ينير، وجودها معا فقط يولّد النور، هنا هزيمة أهل القيم كبيرة أمام متدافعين على منافع.

"خالد" يرفض الهزيمة "على المهزوم التفكير بأسباب هزيمته، بقيمه" وحين يلتقي مع عمه الآخر "صلاح" ممثل المعارضة الشيوعية في الخارج، يدور نقاش قاس، حول الخير والشر، يرفض خالد كون الشر شرا مطلقا، والخير خيرا مطلقا، الهزيمة شقت الناس "أرى داخل كل جلاد ضحية وفي كل ضحية جلاد".

الحظ أم العقل أفضل؟
يستضيفه في المنفى أحد الميسورين، فخالد الغريب هنا يمثل قطبا يجتذب الكثيرين من المهجر، ينتبه الرجل إلى اختلاف ضيفه عن البقية، ينصحه بالرجوع إلى شرقه، إلى ذاته الحقيقية القديمة، لكن خالدا يدرك أن استقلاليته ليست رغبة في التفرد حسب، إنما هي ردة فعل، لا مناص عنها، على مجتمع قهار يضيع الحقيقة، هنا وهناك.

وإزاء ذلك القنوط يتصل مع والدته في بغداد، ينقلنا الكاتب إلى أسمى صور النبل والإيثار والحب الحقيقي، يهزك، يبكي عالما يتهدم في صمت، يأتيه صوت أمه المتهدج، يستعيد جزءا من قوته المبددة بهواجس، يغالب ألمه في منزل الغريب والبلابل، منزل النفي والهجرة، هنا تجد البلابل تتكالب برقّتها على "خالد" الإنسان المتفرد المتصلب المازح، تفترسه بإثارة شجنه.

كما تجد الشاعر، الراقصة، المغني، الشابة الفلسطينية وإيماءاتها من شباك الشقة المقابلة، الفنان التشكيلي الذي يزوّر الجوازات تاركا جداريات بابل خلفه، حتى القنصل السوفييتي الطاشقندي المسلم، الكل تحول في غربته إلى بلبل يشدو بشجن، الكل يزقزق، يغرد من زاويته، في انتظار فجر، ويتساءل أحد البلابل، وهو صحفي يعيش بين كوم أتربة وكتب في قبو "قل لي، هل يعدل الحال يوما لأصحاب العقول، أو نحن نخدع أنفسنا.. بالأمل" ذلك أعادني إلى أحد المهندسين الزملاء، حاصل على شهادة دكتوراه، دعا ربه دائما "يا رب اجعلني من أصحاب الحظوظ لا من أصحاب العقول" المشكلة واحدة.

"خالد" يفيد: "التشخيص نصف العلاج" يجيبه الصحفي: "التشخيص يحتاج حرية كلام ولحما نأكله" ويسترسلان في مزاح وتداعيات: "واللحم عند القصاب، والقصاب بيده سكين، والسكين ترقص على رقبة مسكين، والبعير يغني لحمي للي عنده قريشات" ويصيحان مقلدين البعير المذبوح "هيع... هيع ... هاعوووو" ذلك هو ديدن التحدي لدى العراقيين في محنة.

ولمَن لا يعرفه أقول كنا، برهان وأنا، نتجول قبل شهر بين ركام بغداد المتهالك، في توجس طبعا من غدر مجهول، رغم ذلك ضحكنا كثيرا، لشدة يأسنا أيضا من تعدل الأوضاع، حتى نبهني الروائي بأنه يجب علينا مراعاة مزاج الناس، امتعاضهم في المأساة منتظر من سارح بخياله فوق خراب. فقلت له: لا تبتئس، لنا حق في قليل من مرح، كما هم يدرون، الرقص هنا لطير يذبحه ألم.

وفي الرواية هذه قرأت له بعد حين: لا ملكة جمال الكون، ولا جنة على الأرض، ولا أفخم الصالات، ولا أعذب الأوبرات، تعوض الحب الحقيقي، ومسقط الرأس، ومقهى الطرف، وأغنية الشباب.. فمن أي نمط ذلك العراقي العربي النافر من غربته إذن، أكان خالد بطل الرواية، أو برهان كاتبها، أو قارئها المعذب هنا وهناك "نمط المغترب الحائر، أم الحائر المغترب" تساءلت عن ذلك وأنا أرى الفرق بينهم يتلاشى، تلاشيه بين "خالد" الفقير و"هاملت" الغني.

في مشهد آخر من الرواية يتذكر الرئيس السوري حافظ الأسد في اجتماع مع المعارضة العراقية بعض شخصيات شكسبير "نزاع عائلة يعبّر عن نزاع أمة" من خلال الرموز الثلاثة الأساسية التي طرحها كاتبنا في تصوره للمعارضة العراقية، تحديدا "عدنان" البعثي الهارب، "صلاح" الشيوعي المغترب، و"عبد الصمد" المعمم المهجَّر، كلٌ منهم يفسر الأمور بطريقته، المعمم يجد في هاملت جانب من مقتل الحسين، بينما يؤكد "عدنان" أن ما رآه هاملت في تخيلاته لغيمة في السماء على شكل بعير، إنما هو تعبير عن الروح العربية المؤثرة في الحضارة، فيما ينحى "صلاح" بعيدا عن شكسبير، إلى واقعه المؤلم اليوم. ويستدرك الرئيس السوري في سبر ثاقب نحو الحقيقة في ذلك المشهد الأخاذ بأن الصراع داخل المعارضة هو صراع قيم، وليس صراع مصالح واقتصاديات أمم.

لذلك هو قابل للحل دون نزاع، وحين يجيّره "صلاح " لصراع مصالح، وعبد الصمد لصراع طائفي، وعدنان لصراع على مناطق نفوذ، فإن تنافسهم الطبيعي ينحرف، برأي الرئيس، يتحول إلى صراع على مكاسب آنية، وبذلك يفقد الكل هدفه البعيد، ويخسر الوطن معهم.

في نهاية الجنينة الثالثة يقوم الروائي بتحليق شاهق، فوق أحداث العالم، حائما في آن حول بؤرة الرواية، أي رمزية تسفير "خالد" من الاتحاد السوفييتي، كاشفا بذلك عن خيوط لعبة دولية مديدة جديدة، بدأت بإبعاد أرانب وسوف يعقبها إبعاد الثعالب، وبرمزية أيضا يسقط "صلاح" الشيوعي، الممثل للإيديولوجية الثورية والاشتراكية في العالم الثالث، من القنطرة، حيث لا عبور بعدها إلى أي مكان خارج المحنة، أي مواجهتها بواقعية ونزاهة "يعبر الكاتب عن ذلك بفتح صلاح عينيه في مستشفى، تحت نظر خالد، الوطني العربي الأممي، الستالايت، كما أسماه صلاح" بينما تتوالى أفكار "خالد" بين البقاء في الشام العزيزة عليه والرجوع إلى موسكو، حيث ابنه وشقته و.. "أوراسيا" في الوقت الذي يراوده الغرب ملاذا آمنا من المحنة، بعد تجربة مريرة مع الشرق، ويذكره أحد رموز المعارضة بأنه لا يمكن الوثوق بالغرب، لأن هدفه البعيد إخضاع المنطقة.

ولأن الأمل المرجو لا يأتي من دكتاتور يستضعف الجميع، فذلك يسهل إخضاع البلد للأجنبي، عليه أن يجد طريقا ثالثة إذن، نحن أمام إحدى إرهاصات الكاتب البعيدة لما يحدث، أُجهِضَت مؤقتا عند تقاود معارضة مع غزو 2003. وليس إلاّ حين تشرف الحرب العراقية الإيرانية على نهايتها تتيسر لخالد العودة إلى ابنه في موسكو، هناك أيضا يجد العالم قد انقلب، واضعا العراقي والقارئ بذلك على موقع الصفر شبه المطلق، بداية جديدة لتأريخ قديم، المؤسسات الكبيرة تتحلل إلى دكاكين صغيرة، شوارع قذرة مليئة بفئران وأناس شاتمين، لاعنين، عواهر خشنات لا يبتسمن إلا لمن تعامل معهن بغير حسنى، تعامل أجنبي مع باعة مصير.

موسكو الخطيب انتهت
موسكو الخطيب انتهت، نهاية تذكر بموسكو تولستوي بداية القرن التاسع عشر، حينما احتلها نابليون، آنذاك أيضا صالت العواهر واللصوص والقتلة تمرح وتجول في طرقاتها.. وها حريق آخر شب في موسكو، إنه حريق البرسترويكا، آخر ينتظر بغداد بالغزو، وقد يغدو مثل الثاني حريقا مطهرا لو التهم اليابس والعفن الواجب إزالته. إن برهان الخطيب يمسك العصا من وسطها دائما، لا يدعنا نقنط، يقربنا بالإيماءة الحرة لطرفها الآخر إلى الروح النبيلة، والذكاء الفطري، المتمثل بابن "خالد" الصغير، الذي يشم من النافذة، وهو في الطابق الثامن، رائحة آبيه الغائب، أي صورة أكثر إنسانية وأكثر تناغما من تلك.

ولا نفاجأ، حينما نجد خالد في مقابلته لابنه، هذا المخلوق الصغير، المرهف الإحساس، "هذه الإشراقة المطلة من بين الغيم على حياته" يصبح أكثر قوة وعنفوان، لا يستسلم للغرق في بحر الأكاذيب والحماقات القاتلة، لا يختار غير أن يقاوم، غير أن لا يستسلم لهوان، متجنبا إلغاء الواقع المشين باستهتار أو جنون، مفضلا المواجهة العقلانية، المدركة لضرورة القيم العالية في حياتنا، حينذاك يجيئنا "برهان" بشفاء مبين، لما ابتلينا به نحن المترددين بنكوص، إذ يدفعنا إلى التوازن، إلى إعلاء النفس بإبداع، ولا يدع أرواحنا تثلم، بل يجعلها بقوة الفن صلدة كالصلصال.

ستوكهولم.. جنة يحكمها شيطان؟
ينقلنا برهان بهذه الجنينة من موسكو، حيث البرسترويكا والعشوائيات التي رافقتها، إلى ستوكهولم، إلى النتائج الوخيمة لحرب الخليج الثانية على العراقيين والحصار العالمي على البنى التحتية للجماهير المبتلية دائما بأهواء الساسة ومصالحهم.
وهنا "ضرغام" ذلك البرجوازي الهارب، صديق طفولة خالد، ابن الحكم الملكي المولع بـ "غالا" المتزوج منها أخيرا، وسط وحشة العلاقات الحميمة التي أخذت تبرد وتتراجع، فيمني نفسه تعويض ذلك بقضاء نهاره بين ساقيها، إلى أن تقول له "شكرا جزيلا، لقد حبلت" لكن تلك المرة، وهو يواصل منحها من جسده وروحه، شعر إنها باردة تحته، غير متفاعلة معه، ما شكّل تواصله معها نوعا من اغتصاب، حسب تصورها، ذلك يؤدي إلى الحكم عليه بمحكمة "ياغوبزبيري ـ جبل يعقوب" سجنا ثلاثة أعوام...

لكن شيئا ما كان قد حدث قبل ذلك، أدى إلى خراب علاقتهما، إلى نوع من فوضى وتغير، ولا سبيل أمامه لمعرفة حقيقة الأمر "هل نحن نكسب الزمن، نجعله لحظات، نطالب الكون والآلهة بتمديده، لأننا فهمنا قدرنا، أو نحن أموات بالحيات.. كما تقول غالا!".

إن رواية برهان الخطيب كتاب مفتوح في عالم السياسة والأدب والفلسفة، إنها تؤسس لحقيقة جديدة لعالمنا، حقيقة اللا ممكن الذي يصبح ممكنا، ينبغي قراءتها للقيام من خلالها برحلة استثنائية، في جنائن تبدو مغلقة، لكنها إذ تفتح بواباتها للقارئ في حوار خفي معه، تشرعها نحو سماء بلا حدود، حيث تُسمع أصوات أدغال وطبيعة كلية، في محاكاة ودحض لعمق مأساة الإنسان المعاصر، المغترب في حضارته، التي تبدو في طريق مسدود، بقهر حروب لا تنتهي، إنما تهبنا على مروج لا نهائية لها حلولا من خلال كشف حقائق "بدون تدخل المؤلف" حول خياراتنا، للدرب الذي نريد، كأنها "سفر تكوين" آخر الزمان للعراقيين. ويمكن فهم من أين جاءت هذه الرؤية هنا.

فالمؤلف لا يحبذ العنف والأكاذيب ولا تغليب المصالح الشخصية على العامة، يرى الجميع سواسية، حتى "عدنان" يتعجب من تفسير وربما تبرير "خالد" للدكتاتورية، بوجود عدو على الأبواب، ولعل ذلك نزل عليه من فكرة "القيصر الطيب" السائدة في الثقافة الروسية قديما، وعادت اليوم حية في صورة الرئيس بوتين. المشكلة إذن أزلية منذ خلق الإنسان، وان خلق "الله" للشيطان وتمرد هذا أعطانا بالنتيجة الجحيم والنعيم، وعلى الأرض الكبار والصغار، تضارب المصالح، والضحية دائما هو الإنسان البسيط، فهل في ذلك دعوة ليقظته!

في هذه الجنينة المغلقة، الرابعة، الأخيرة، التي هي عودة أيضا وامتداد للبداية البعيدة "إنها ليست مقدمة" تظهر الشخوص الرئيسية في الرواية حلقة واحدة، غالا الحسناء المسكوفية الغامضة، ضرغام البرجوازي السابق، خالد الكاتب، الشعاع المنير الذي لا يُمسك بيد، وعدنان يمارس آخر لعبه، حيث ينتحل اسم إياد مجيد، الذي أعدمه بنفسه في بغداد، ويظهر به في ستوكهولم. وهنا نرى ضرغام في دوامة علاقات غير مفهومة وسلوكيات جديدة تمارسها غالا أثناء ترددها على شقة إياد مجيد "عدنان" حيث الشمس المشرقة في حياته الباردة تنطفئ.

وخالد يستقطب الزوابع بمحاضرة شاملة عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في بلده، يطلب التغلب على النفس واستيعاب ما يريده الغير، مقدمة لتفاعل أو وقفة مقابله، محذرا من تحويل تفكير غيبي توسعي إلى برنامج سياسي، جاعلا بذلك من جهنم جنة بالفلسفة، حسب رأي ضرغام، التائه الحائر في حبه ومصابه منه، واضعا الحب عموما موضع تساؤل. أما العنوان الغريب لهذه الجنينة فقد سألت عنه الخطيب كيف نحته، قال ثمة مقولة عن ستوكهولم تفيد بأنها جنة يحكمها شيطان، لكني فضلت جعله "جنة فيها مكان لشيطان" وقد
أكون صخبت بعزفي عليه.

له ظل قاتم
الأسمر، ذو الندبة بين الحاجبين، التي يؤكد عليها الكاتب في البداية، لفك السر الكامن وراء تقطيعه وبعثرة جثته في أكياس نفايات، بأماكن مختلفة من العاصمة ستوكهولم، عدا الرأس التي لم تتمكن الشرطة السويدية من العثور عليها لتعرف "ماذا يخفي ويدبر هذا السياسي الانقلابي المخضرم المتقافز فوق الألغام من بغداد إلى موسكو فإلى بغداد فدمشق ومنها إلى ستوكهولم" يتضح له ظل قاتم، يعيش حيا جنوب ستوكهولم، وبعملية شبه بوليسية جد مشوقة يقتحم خالد شقة الظل، إياد مجيد، يكتشف حقائق جديدة، أسماء صحفيين من ضمنها اسمه، تلفونه، منشورات متنوعة للمعارضة، حتى يجد اسم أخيه "حامد" الذي انتقل إلى كوبنهاغن.

استقر هناك، إلى أن يعرف بمتابعة إلى هناك إن أخاه أُرسل لقتل "عدنان" الذي استثمره سابقا أسوأ استثمار، ثم أصبح يطلب منه أن يكون حلقة وصل بين المعارضة في الخارج و "نوفل" زوج أخته العسكري المخضرم. تزداد كراهية حامد لعدنان لتلاعبه معه، لتحويله شخصية مشوهة متمرسة في الانتهازية والرداءة، وأيضا لاستغلاله ابنة عمه، حين كان قنصلا في موسكو، وتركها حبلى هناك.

في هذه الرواية، بل الملحمة الروائية، الشقيقة الكبرى لروايات الخطيب، نجد العبرة الفردية والاجتماعية جزءا من رؤية سياسية واسعة متنوعة لإبطالها، نحو العراق خاصة، والعالم عامة. فيها مهم كيفية التوازن والتعامل الحر مع الواقع "القائد الكبير يرى الخطر أمام أمته، يتجنبه بدفاع، لا بهجوم مدمر لها، كذلك الإنسان العادي، مثلك ومثلي، عليه احترام الواقع" وتنهار حلقة حامد رباب في الدنمارك، حيث تغيرت شروط الحب، وفقدت رباب من رصيدها الأنثوي الكثير، في مغامرة مع عدنان أنجبتها طفلا أخيرا.

كما تعذب حامد من الماضي والحاضر سواء، بينما يعود خالد إلى ستوكهولم نافرا من تغيرات احتطبت حياة أناس سعوا لألفة، ويجد الحلقة الأخرى أيضا تفككت.. ضرغام في سجن " ياغوبزبيري" بتهمة اغتصاب زوجته، و"غالا" أيضا غائبة. ويتقابل خالد وعدنان، طرفا المعادلة الخفية، الحياة السوية في النفس الرضية، ونقيضها اضطراب الخارج وانعكاسه عليها، الأول ترك الإغراءات وراءه من اجل إثبات حقائق الحياة السَنية وكشفها، والآخر مارس ألاعيب قذرة من اجل التسلق والوصول إلى القمة، لكن حين يشعر أن الأرض تميد تحت أقدامه انقلب على نفسه، أخذ يبحث عن سبيل آخر للارتقاء، لذا لا نفاجئ هذه المرة حين نرى السبع خائفا، مرتبكا.

الرجلان أخيرا وجها لوجه، على أرض محايدة، كان عدنان قد توسل إلى خالد ليتصل بزوج أخته، الرجل المؤهل كبديل لرئاسة البلد، ثم تحول دراماتيكيا مع تخليه عن مبادئه، من وطني حريص ضالع في نشاطات ضد رئيسه، إلى شخص ضائع في خيبة مريرة.

الخطيب: لا أريد ترشيحي لبوكر؟!
كان ذلك آخر لقاء مع عدنان قبل تحوله جثةً مقطعة، وهو اللقاء الذي جعل محقق الشرطة ستيفنسن يحسب خالد أحد الخيوط المهمة، لكشف الجريمة الغامضة، وحين مرت عشر سنوات على اختفاء عدنان وغالا يلتقي خالد بالمحقق ستيفنسن، بعد إحالته على التقاعد، لكن بعد تصورات وشرب واسترخاء في مواجهة غير محسوبة مع المحقق، وهما في المطار، والمحقق يحاول تكليفه بمهمة، يقرر خالد أخيرا إلغاء رحلته، يكتفي بالسفر عبر أوراقه، مؤكدا بذلك أفضلية الإبداع على سواه.

الثقافة والسلطة لا يتصالحان من وجهة نظر خالد، أما ستيفنسن فيرى كالخطيب نفسه إن إحداهما تكمل الأخرى، تنافرهما يضر كليهما. ماذا يريد أن يقول الكاتب هنا؟ هل تنحصر كل مشاكلنا، وفي عالمنا الثالث المتخلف، في كون المثقف غير متصالح مع السلطة؟ إنه استنتاج في غاية الأهمية. ذلك مؤيد لما نجده في المدنية الحديثة، ورموزها الحضارية، حيث تصالح المثقف مع السلطة. وإذا رجعنا إلى ظهور البرجوازية الأوروبية بعد انحسار الإقطاع نجدها قد ساهمت بشكل فعال في بناء الحضارة، واغتناء الحركة الفكرية والفنية، بكل سبل الدعم. وحينما حل عصر النهضة جاءت معه مؤشرات التقدم العلمي الاستطلاعي والتجريبي.

إن هذا التدرج في تطور الفكر والمعلوماتية لا نجده في واقعنا العربي مع الأسف، سوى في الآونة الأخيرة حيث زحف التنوير إلى أعلى، ومنه إلى أسفل، وكان قد ظهر ذلك التفتح الثقافي، مع انتشار المدارس الدينية المتنورة، في العصر العباسي، لكن قضت الموجة المغولية عليه، التي كانت من الأسباب المهمة لانحسار الثقافة وتعاملاتها مع الواقع إلى يومنا، إنما ليس تماما، فقد مدنت الثقافة العباسية حتى غزاتها أخيرا. وكل ذلك يحتاج بحثا مطولا آخر يتناول روايات برهان الخطيب ككل، يوضح علاقة الثقافة والمثقف بالمجتمع، بالسياسة، وبالسلطة .

أخيرا، فكرت.. ما الذي سيكافئ برهان الخطيب على صرفه عمره في نظم تاريخ العراق الحديث تحفة إبداعية فريدة، صادقة، موضوعية، حيادية، احتضنت حياة أشخاص عرفناهم، وأحداثا حقيقية عشناها، خلال أكثر من نصف قرن؟! مَن الذي سيرفع يده تحية لهذا الإنسان، الذي ضحى بكثير من المغانم من أجل قول الحقيقة وتسطيرها فنا رفيعا بروايات تتحدى الزمن؟ نعم، خير مكافأة له تبقى أعماله نفسها. والخطيب برهان يختلف عن كل كتاب الرواية، فهو لا يبغي حبكة أدبية مصطنعة على حساب الحقائق التاريخية، ولا يبالغ في السرد الروائي المعتاد، كما لا يتساهل فيه، أو يروج لأفكار معينة على حساب ما يقتنع به الآخرون، هو يفتح أذهاننا وضمائرنا ويعطينا من معينه الذي لا ينضب رؤى إلى ما وراء الأفق.

في شارع الرشيد، ونحن نتمشى بين الخطر والخطر، سألته لماذا لا ترشح روايتك الأخيرة لجائزة البوكر مثلا، يقال فيها مغنم كبير. ابتسم كعادته، أجاب: لا أريد ترشيحي لجائزة بوكر، فهي جائزة غير مستقيمة تبيّن لي.
آه.. ماذا فعل الاحتلال!

أي بلد عاق هذا الذي يولي ظهره لبرهان، وأي مؤسسات وعناصر جاهلة تلك التي تحاول تجاوزه. لقد قطعت مسيرة نصف قرن معه وأنا اليوم في أفضل رضا عنه، لما رأيت من تجرده واعتكافه للأدب وإنجازه. عهد مضى شاب صداقتنا خيط لوم مرير من ناحيتي، لمسافة باعدتنا بعد تخرجنا من كلية الهندسة، هو ذهب في دربه الإبداعي الذي اختاره، وأنا إلى المهنة بكل جد، أرفد تجربة وطنية تعثرت، بمكائد وتعقيدات لم تحل بتفاهم، النتيجة تفاقمت كارثة حقيقية اليوم، عسى العوض في الآتي.

إنها لخصلة طبيعية، الحس الرافض للتباعد والفوضى، مرئية وغير مرئية، خاصة عند العراقي، خلاف ما يشاع عنه الآن، هكذا عدنا والتقينا، برهان وأنا، رغم الزمن والمسافات، وقطعنا بغداد مشيا كما في أيامنا الخوالي، نكاية بالخطر حينا، وتأكيدا على حب متأصل فينا، لعاصمتنا الجميلة وتأريخها العريق، حتى في جحيم يؤججه أجنبي دوسا على القيم والتراث، رغمه مشينا طويلا، من كتاب في المتنبي، إلى خراب في الرشيد، إلى سراب في أبو نؤاس، نتطارح شؤون الثقافة وهمومها، مؤكدين بذلك على ديمومة الأدب والفن في مدينتنا، بل وعلوهما، خاصة قد حضر المثال، فبأدبه الجم ورؤيته الواضحة رغم سنين الشك والارتباك تواصل الخطيب معي، مع أناس عاديين مررنا بهم، عراقيا أصيلا رغم نأيه الاضطراري عن بلده، من وهن إلى وهن، مؤكدا بذلك الحضور ليس في العالم كله مثل بغداد وفتنتها.

ونحن أمام دجلة شبه المهجور قال: فاتنة نعم، كيف لا؟ ألا ترى الفتنة مشتعلة حولها بالجميع نصف قرن من حياتنا!
مقابل ذلك بدا لي أن الاحتلال، لأكن أكثر صراحة، جعل كثرة من الفنانين والسياسيين والأدباء والمهندسين و.. و.. دجالين، حتى زملاء أفاضل، راحوا يلهثون وراء مناصب، غير مؤهلين لها، ممارسين لصوصية، محسوبية، من أجل ثراء سريع. كل ذلك باسم الوطنية والتغيير. نعم، ما عدانا، برهان وأنا، أقول ذلك بكبرياء عال، من غير مبالغة. لذلك، رغم الطرق المتشعبة أمس، التقينا مجددا، هو وأنا، على نفس الموقع الذي افترقنا عنده قبل أربعة عقود، موقع حُب الحقيقة، ضرورة النزاهة، الابتعاد عن التلوث، نبذ المهادنة والخنوع. بدون ذلك، كان رأينا وما زال، لا احترام لنفس، ولا راحة لبال.

ذلك أيضا وجدته الأساس، وأنا أنقب، في عمله الإبداعي الكبير هذا، بين يدي.

المصدر: العرب أونلاين-يوسف الصفار

قد يعجبك أيضا...

أضف هذا الخبر إلى موقعك:

إنسخ الكود في الأعلى ثم ألصقه على صفتحك أو مدونتك أو موقعك

التعليقات على «الجنائن المغلقة».. رواية فتحت بواباتها نحو سماء بلا حدود 2/2

كن أول شخص وأضف تعليق على هذا الخبر الآن!

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
25719

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري

خلال 30 أيام
خلال 7 أيام
اليوم