آخر الأخباراخبار الفن والثقافة › خمسة نصوص مسرحية من ليبيا

صورة الخبر: خمسة نصوص مسرحية من ليبيا
خمسة نصوص مسرحية من ليبيا

أوّلا – أدبية النص المسرحي
من الضروري بداية أن نشير إلى ضآلة الدور المناط بالنص المسرحي في فن المسرح بوصفه فنّاً مركّباً قوامه الأساس هو الأداء التمثيلي على الخشبة أمام جمهور، وما يصاحب ذلك من مؤثّرات مضافرة، بصرية وصوتية، وإضاءة، وحركات تتراوح بين ما يشبه أداء البهلوان، والرقص بمختلف أنماطه، ليتشكّل العرض آخر المطاف من اجتماع هذه العناصر التي يذوب فيها النص مضيّعاً طبيعته النصية "الورقية على وجه الخصوص" ليتحول إلى مجرّد عدد من أفعال التلفّظ التي تخرج من شفاه الممثّلين، أو تصدر عن مصدر ظني في خلفية العرض كـ"أناشيد الجوقة، أوتراتيل مفترضة أحياناُ، أو ما يمكن أن يُسمّى صوت القدر، أو العالم الماورائي.. وما شابه ذلك". إن النص يمّسخ خلال العرض إلى عنصر صغير مضافر لبقية العناصر التي لا بدّ من وجودها لتجعل العمل المسرحي عرضاً قابلاً للفرجة، على أساس أن المسرح هو فن من فنون الفرجة لا يكتمل من غير متفرّجين.

وربما كانت الإشارة نافلة إلى وجود عروض مسرحية تبدو ظاهريّاً قد استغنت عن النص بصورة كاملة، وهي عروض المسرح الإيمائي التي ينسحب فيها الأصل النصي، أو الأصل اللغوي إلى مجرّد توضيحات، وتوجيهات للمثلين بقصد إتقان الأداء. وغنيّ عن البيان أن هذه المرجعيات النصية المتعلّقة بتوجيهات الممثلين، وكيفيات الأداء تنتسب، أو يمكن أن تنتسب إلى ما يُسمى خارج النص الأدبي، رغم طبيعتها النصية الصرفة.

ويُضاف إلى ضآلة الدور المناط بالنص المسرحي في فن المسرح ضآلة أخرى هي ضآلة الصفة الأدبية في نصوص المسرح النثري على وجه العموم، حيث تحلّ ما يمكن أن نسميها بلاغة الأداء التمثيلي، أو جماليات العرض والأداء محلّ الجماليات اللغوية القائمة في بقية الأنواع الأدبية الأخرى. هاتان الضآلتان المتراكبتان تنتجان حالة من حالات البؤس الناشئ عن عملية قراءة نصوص كُتبت لغرض آخر غير غرض القراءة، وكأنها من هذه الزاوية نصوص غير قابلة للقراءة، أو تفرض على القارئ مضاعفة نشاطه التخييلي الذي يذهب به باتّجاه تخيّل ما تحيل عليه معروضاً على الخشبة، أمام جمهرة من المتفرجين. مع ضرورة تثبيت ملاحظتين بخصوص ما سبق:
تتعلق الأولى بأن ما أشرنا إليه يتجاوز النصوص المسرحية الليبية المعنية بالدراسة إلى معظم نصوص المسرح النثري.

وتتعلّق الثانية بما يمكن أن أسميه شقاءً خاصّاً ناتجاُ عن بعد الشقّة بين النص المطبوع وبين ما يمكن أن يصيره على الخشبة التي يمكن أن تخرجه بصورة مختلفة كل الاختلاف عن طبيعته المقروءة. وخصوصاً في ظلّّ ما يشبه الثقة بندرة الفرص المتاحة للتفرّج على نصوص مكتوبة بالمحكية الليبية، عبر اندغامها في عملية عرض حية خارج ليبيا.

* ثانياً – نصوص مسرحية من ليبيا
إن عيّنة مكونة من خمسة نصوص ليست قادرة على إضاءة كاملة للمشهد المسرحي الليبي، ولذلك من المناسب أن نذهب إلى أنها عينة اختيرت عشوائياً، أو اختيرت بعناية خاصة، للتمثيل على هذا اللون من النشاط الثقافي المتمتّع بزخمه الخاص ضمن المشهد الثقافي الأشمل في ليبيا، ويمكن موازاة ذلك بما يحدث في عمليات استطلاعات الرأي التي يقوم نجاحها على حسن اختيار العينة التي تُسبر آراؤها بشأن مسألة ما. لكن الأنسب – من وجهة نظري – إدراج عملية انتقاء العينات النصية في سياق التجادلات المعروفة بين الخاص والعام، أو الجزء والكل، حين يستطيع الجزء أن يشكل بنية كلية صغرى دالة على البنية الكبرى.

بين النصوص الخاضعة للدراسة نص مكتوب بالمحكية الليبية، وهو مكون من ثلاثة مشاهد، أو ثلاث مسرحيات بحسب مؤلفه، وخروجه عن نسق المسرحيات الأخرى المكتوبة بالعربية السليمة يطرح علينا إخضاعه إلى رؤية مختلفة.

تعالج النصوص الأربعة "الصوت والصدى، وأوريست يعود إلى المنفى، والخيول الجامحة، وتجبر يا عبد الجبار" عدداً من القضايا التي يُفترض أن تكون قضايا ساخنة، وذات طيف متسع للغاية، أو بالأحرى، طيف قابل للتوسيع، إذ تضيق بعض انفراجاته إلى خصوصية العلاقة بين الذكر والأنثى، في الإطار المحلي الضيق حتى داخل الحدود الليبية. وتتسع زوايا أخرى لتشمل قضايا سياسية، وإيديولوجية على مستوى البلد، والمنطقة العربية، والعالم. كما يمكن توسيع بعضها ليلامس مسألة الوجود البشري بحد ذاته.
2/1- "الصوت والصدى" لعبد الله القويري، يشير مؤلّف النص في مقدّمته القصيرة إلى أن العمل المسرحي يكتمل بواسطة العرض لا بواسطة اللغة، ولكن النص المكتوب يستغرقه الحوار المتبادل بين شخصيتين يقتصر المشهد على وجودهما بصيغة ثنائية معظم مراحل العمل، والنص مستغرق أيضاً بمناقشة قضايا نظرية كبرى تبدو منقطعة عن إمكانية التعيّن الواقعي، سواء أكان ذلك الواقع ليبيّاً أم غير ليبي. والأفكار أفكار مجرّدة يسهم في المزيد من اكتسابها الصفة التجريدية تنميط الشخصيات المسرحية وتعريتها من التسمية التي لا بدّ منها بوصفها الأساس في التعيين والتحديد داخل الواقع، فنجد أن شخصيات النص هي "الرجل، والمرأة، والشاب، والشيخ، وصاحب السترة السوداء..إلخ".

والأفكار المشار إليها تبدأ بالتساؤل عن معنى المرأة وأبعادها، كالمرأة الجارية التي لم يعد لها سوق، والمرأة المصنوعة من الكلمات، والتي تجعل الكلمات سلاحها. كما يشير النص بواسطة شيء من اللعب على الكلمات إلى أن المعرفة رغبة في الصعود، لكنه الصعود إلى تحت "ص 10" بحسب تعبير النص.

وفيما يتعلّق بعناصر الإثارة المنتمية إلى فن الفرجة، نجد بعضها يتمثّل في تصعيد نبرة الحوار بين الرجل والمرأة إلى ما يشبه المهاترات الزوجية التي تصل إلى حدّ التشاتم، وتبادل الاتّهامات، والمناقرة المتبادلة، وصولاً إلى إخضاع الشكل الحالي للأسرة، والعلاقة القائمة بين أفرادها إلى نوع من المساءلة والاتهام، وكأن النص يذهب إلى أن هذا الشكل المعتمد للأسرة المكونة من أب وأم وأبناء لم يعد صالحاً للبقاء في عالمنا الراهن: "الرجل: تقولين اسكت. تجمعنا طبيعتنا في لحظات، ثم نغالط أنفسنا فتدّعين الأمومة وما لها من حقوق، وأغالط نفسي فأدّعي الأبوّة وما لها من حقوق، كل منا ينافق غيره، ثم ننافق جميعاً مَن بعدنا، ونقول لهم: أعطيناكم الحياة والحنان والرعاية فاعطونا التقدير والامتنان. ص 23".

يأتي النص أيضاً على فكرة المولود من الرأس مثلما تولد الأفكار، وهو ما يذكّرنا بولادة الإلهة أثينا من رأس والدها كبير الآلهة زيوس في الميثيولوجيا الإغريقية. ويلي ذلك تقليبات نظرية بشأن فكرتي السؤال والجواب "ص 50" ومشكلة الإجابة من غير أسئلة، ثم عرض تأمّلات بشأن فكرة الصدى وصلته بالصوت، وسعي السلطات – بصفتها المطلقة لا المقيدّة بالصفة السياسية أو سواها – إلى مصادرة الصدى بعد إخراس الصوت، واستنكار السلطة أن يكون لصوت المرء أي صدى، على أيّ صعيد. "ص 77".

يقترب النص تدريجيّاً، وأحياناً فجأة، من حالة التعيين الواقعي حين يقتحم رجل الأمن، أو رجل المؤسّسة، أو الوكالة "صاحب السترة السوداء" المشهد فارضاً نفسه قيّماً على كلّ شيء، بما في ذلك منح نفسه الحق في تعذيب الرجل لأنه يسأل، أو لمجرّد أنه يفكّر بالسؤال، أو لمجرّد أنه يضمر في أعماقه أفكاراً أو أسئلة لا يجوز له حتى أن يسمح لها بالتكوّن داخل صدره، وإذا ما تكوّنت فإن على السلطة الأمنية استخراجها، وتبديدها، ومنع تبلورها من الأساس، فـ"صاحب السترة السوداء" يقول صراحة: "إننا نكره الصدور المغلقة . ص 117".

يعاني النص انتقالاً مفاجئاً من الحوار بين الرجل والمرأة، إلى الحوار بين الرجل والسلطة، من غير إمكانية الذهاب إلى عد الرجل تمثيلاً للسلطة لأنه ضحية وجود السلطة، ومن غير إمكانية الذهاب الموازي إلى عدّ المرأة تمثيلاً لتلك السلطة الأمنية الرهيبة، ليس فقط لأن ذلك يخالف واقع الحياة المكتظ حتى التخمة والتقيّؤ بالسلطات الذكورية المتراكب بعضها فوق بعض، وفي قلب بعض، بل أيضاً لأن المرأة في النص – وهو المهمّ – تتنحّى وتختفي من غير أية إشارة إلى أي ربط لها بالسلطة الرهيبة التي يخاطب الرجل ضحاياها قائلاً: " سوف تُحاسبون على جرائم لم ترتكبوها، ولكنكم ستعترفون بارتكابها، ستقولون كلمات لم تقولوها ثم تعودون بعد ذلك وتنكرونها. ص 135".

ثم يعود الحوار مرة أخرى إلى مناقشة أفكار تجريدية كالحديث عن عقم الانتظار على طريقة من ينتظر "غودو" في مسرحية بيكيت، ولكن النص يتحول بصورة مفاجئة من هذه المناقشات التجريدية إلى السقوط في شيء من المباشرة واللهجة الخطابية حين يؤكد على لسان إحدى الشخصيات أن "الحديد لن يستطيع حرق الكلمات. ص 148".

لا بد من معاودة التأكيد على أن الشغل هو شغل على النص المقروء، لا على العرض الذي يمكن أن يذهب بالنص مذاهب شتى، ويحمله بمحمولات يصعب على القارئ إيجادها والعثور عليها خارج اكتمال ما يسمّى باللعبة المسرحية، ولكن من المفيد أن نتنبّه إلى أن النص المسرحي الثري هو ذلك النص الذي يشي – أو القادر على أن يشي – بمختلف الإمكانيات المتاحة أمام المخرج والممثلين للعب على الخشبة، وجعل النص عنصراً من عناصر الفرجة، وهو ما يشي به في "الصوت والصدى" حوار بين الصوت والصدى، بعد وصلة من وصلات التعذيب، في أحد أقبية الأمن.

2/2- "أوريست يعود إلى المنفى" للبوصيري عبد الله، تبدو تأليفاً لاحقاً على تأليف – أو تآليف – سابق معروف على نطاق عالمي في التراجيديا الإغريقية العريقة التي اعتمد بعضها وقائع تدمير طروادة، وماتلاها مادّة أساساً لإنشاء عدد من المعالجات الدرامية وابتكار الشخصيات النمطية التي ما زال بعضها عنواناً لحالة إنسانية، أو عقدة متواترة في تاريخ الوجود البشري، على غرار "عقدة إلكترا" ابنة آغاممنون التي تسمى باسمها حبّ الابنة لوالدها بصورة مبالغ فيها تتجاوز حدود المحبة والإعجاب، حيث تتحدث الثقافة البشرية عن عقدة إلكترا، بالتوازي مع ما يسمّى "عقدة أوديب" على سبيل المثال لا الحصر بطبيعة الحال.

يفترض مؤلف النص أن القارئ، أو المتفرّج أمام الخشبة يعرف مسبقاً وقائع اغتيال أغاممنون القائد الأعلى للجيوش اليونانية التي دمرت طروادة على يد زوجته انتقاماً لابنتها الطفلة "يفغيني" التي كان والدها أغاممنون قد ذبحها بيديه تقدمة للآلهة في سبيل أن تغيّر الريح اتجاهها بما يوافق مسيرة السفن الحربية اليونانية إلى طروادة.

لكن النص الذي كتبه البوصيري عبد الله على ألسنة الشخصيات الإغريقية التي آل إليها ما كان لأغاممنون لا علاقة له بذلك الإطار التاريخي القديم الذي اختاره لتأطير عمله المسرحي، بل سار كل شيء في سياق خطاب سياسي معاصر يتركّز معظمه، وربما كله، في السعي إلى فضح موبقات السلطة القائمة، والفساد المستشري في صفوفها، وأساليبها الدموية من أجل البقاء والاستمرار في موقعها السلطوي، مع شيء من المسوغات الهشّة التي تسوقها لانتهاج الأساليب الوحشية في مختلف ممارساتها، فنقرأ على لسان الملكة التي كانت قد قتلت زوجها "البطل المنتصر العائد من الحرب": "ما اتخذنا الدماء وسيلة لنا إلا لأننا عاجزون عن حل مشاكلنا بالحلول المقبولة للطرف الآخر.. وهذه هي مأساة الحكم في كل بقاع الأرض. ص 25".

النص بمجمله مبتلى بالمباشرة في طرح قضايا السلطة التي يمكن أن تكون أية سلطة قائمة في المنطقة العربية أو أي مكان آخر من أمكنة العالم الثالث. والمباشرة تبدو عموماً عاجزة عن الإقناع الفني وخصوصاً حين نطالع صحوة مفاجئة لضمير الملكة التي قتلت زوجها وتزوجت العشيق غاصب العرش، والموقع الشرعي للبعل المقتول. وفي هذه النقطة تمثل مسألة شديدة الخصوصية في معظم الأطر الاجتماعية العربية لامستها المسرحية ثم سارت على رصيف الطرح السياسي الفجّ متجنّبةً إثارة عمق المشكلة في الوعي الجمعي لابن المنطقة العربية، والمسألة هي مسألة زوج الأم الذي يُفترض أن يقوم بموازاة زوجة الأب.

غير أن الثقافة البشرية عموماً، بما في ذلك طبيعة الحراك الاجتماعي في المنطقة العربية، وفي أوروبا أيضاً، أجازت للأب أن يتزوج عدداً من النساء. وعلى الرغم من وفرة القصص الشعبية في الثقافتين العربية والغربية عن ظلم زوجة الأب لأبناء زوجها من زيجاته الأخرى، فإن ذلك صار مألوفاً رغم ترافق إلفته بالغصّات والمنغّصات التي لا حصر لها. وحتى في الأطر الإسلامية التي تجيز للرجل زواجه من أربع نساء، يظلّ قبول الأمر مقروناً بغصات أعمق من طعن الخنجر في معظم تمظهرات الواقعة. لكن قبول زوج الأم، وخصوصاً من جانب الأولاد، لم يُقبل باليسر الذي يمكن تصوّره.

فمما شكّل مأساة هاملت زواجُ أمه من رجل آخر حتى لو كان الرجل شقيق الزوج، وسواء أكان قد قتل الزوج السابق أم لم يقتله ما زال زوج الأم أية كانت الصيغة التي حدث فيها الزواج، يُعدّ غاصباً ومغتصباً لشرعيّةٍ متفجّعٍ على تضييعها وكأن الثقافة البشرية إلى الآن لم تعترف للمرأة بحق امتلاك جسدها، ونفسها، وخصوصاً حق امتلاك أعضائها الأنثوية.

لقد أظهر النص إيجست عشيق الأم الملكة، ثم زوجها بعد قتل الزوج، طاغية مجرماً، غاصباً لأنه تزوّج أم إلكترا، وأم أوريست، ونام في فراشها، وجريمته ترتدّ إلى هذا السبب أكثر من ارتدادها إلى مساعدة الملكة على قتل زوجها، وممارسة السلطة بالحديد والنار.

لا يسوّغ النص توزيع الدورين بين الشقيقين المظلومين بقتل والدهما، فالأنثى إلكترا تمارس الدعاوة السياسية، وتمارس التحريض العلني على حمل السلاح لمناهضة السلطة الغاشمة، والملكة صاحبة السلطة تواصل استياءها من كل شيء، بما في ذلك جهاز سلطتها ذاته، فتقول متأففة: "إلكترا تحدّثنا عن الإنسان والحرّية، ونرسيس شاعر القصر يحدثنا عن السلام والعدالة، وها هو أكاست قائد حرسنا الخاص يحدثنا عن الضمير والمعاناة. ص 117".

لا شك في أن لعبة الإسقاط مورست في كل ثنايا النص، غير أن ما حال دون إتقانها هو المباشرة والمزيد من المباشرة، بالإضافة إلى الوقوع في بعض الهنات كالتأكيد على أن "مدافعنا لن تسكت. ص 209". وكأن الكاتب قد نسي أنه يلتزم الإطار التاريخي القديم في تسيير أحداث مسرحيته، وكأن المعركة تجري الآن في عصر القنابل والبارود.

وهناك قسم بآلهة الألب، وسأفترض أن ذلك خطأ مطبعي، لأن الآلهة الإغريقية هي آلهة الأولمب لا الألب، كما لا يخفى على فطنة أي قارئ. ولكن أبرز الهنات من وجهة نظري يتمثّل في تقليد اللعبة المسرحية التي لجأ إليها هاملت "شكسبير" حين استحضر مجموعة من الممثلين الجوالين لتجسيد جريمة قتل الأب. وفي نص البوصيري مسرحية تلجأ إليها إلكترا يشخّصها ممثّلون أمام الجمهور بقصد فضح وقائع الجريمة التي ارتكبتها والدتها الملكة.

ومع ذلك لا بدّ من التنويه ببعض اللمحات الفنية الخاصة بإتقان اللعبة المسرحية، كالحركة التي يقوم بها إيجست زوج الملكة على الخشبة حين يطلب من مرافقيه صبّ الماء على موضع العقل في رأسه، مع إحالة هذه الحركة على ما قام به آخاب في "موبي ديك" عندما وضع رأسه على سندان الحداد طالباً من حداد السفينة أن يعيد له صياغة رأسه من جديد كما لو كان مجرّد قطعة حديد. وهناك أيضاً بعض العبارات ذات الطابع الأدبي، كما في تشبيه الوقت بالطائر: "تذكرا جيداً أن الوقت كالطائر إذا فرّ من قفصه لا يعود إليه ثانية. 149".

ويُضاف إلى ذلك قدرة النص على إشاعة جو اليأس من أية إمكانية للخلاص من قبضة السلطة، حيث تنتهي المسرحية بما يشبه النهاية المفتوحة على مختلف الاحتمالات، فتبقى إلكترا في السجن، وأخوها "البطل" أوريست يعود إلى المنفى مواصلاً معركته مع السلطة رغم اليأس والحصار.

2/3. تبدو "الخيول الجامحة" لعبد الكريم الدناع في الموقع الأقل انتماء لفن المسرح من بقية الأعمال الخاضعة للدرس، وهي تتناول مرحلة المرابطين، وعبورهم إلى الأندلس لإنقاذ ما كان يمكن إنقاذه من بقايا الوجود العربي المتهالك في ما كان قد تبقّى لهم من أرض الأندلس، ويبدو في النص يوسف بن تاشفين ذا مواصفات أخلاقية تتجاوز ما اتّصف به الأنبياء من تقشّف وزهد في ملذات العالم، وحرص على عمل الخير، ومنفعة الأمة من غير أية أطماع شخصية مهما ضؤل شأنها.

وبدا فيها اليهود منافقين يسعون إلى خدمة الإسبان والتحالف معهم من أجل القضاء على العرب، فكان منهم الوزير، وكان منهم الرسول، والمحرّض في البلاط الإسباني، وهو ما شكّل ثغرة فظّة في القدرة على تصوير الواقع التاريخي القديم، من جانب، وثغرة موازية في عملية إسقاط التاريخي على الراهن، من جانب آخر، فكان الإطار التاريخي الذي اعتمده النص مجرّد ذريعة لإطلاق خطب ومواعظ رنانة بشأن الواقع المزري للحكام العرب جميعاً من غير استثناء، وكشف دور اليهود في التآمر على العرب، ودورهم في تحريض الدول الكبرى عليهم.

وما إلى ذلك. مع توجيه رسالة مركزية مفادها أن إنقاذ الوضع المتردّي لن يكون إلاّ عبر منقذ نبيل، منقذ قادم من أفريقيا حصراً، يتمتّع بمواصفات خارقة، نظيف إلى أقصى حدود النظافة من أية مطامع شخصية، بما في ذلك المطامع المعنوية، كالإشادة بالصنيع، وتلقّي المديح، والتبجيل، وما إلى ذلك.

ولا يغيب عن وعي القارئ الفطن أو الواقع العربي الحديث قد ابتلي على مدار عشرات السنين بآفة التبشير بأولئك المنقذين الذين ذهب التبشير بهم وبقدراتهم إلى وضعهم في مصاف الآلهة من غير أية مواربة. وسطوع الأمثلة يغني عن ذكرها. ويُضاف إلى ذلك أن المشابهة بين حال العرب وحكامهم اليوم، وحالهم تحت حكم ملوك الطوائف في الأندلس قد تناولتها أعمال ثقافية عديدة تتراوح بين الجودة والرداءة من الناحية الفنية، وتتراوح أيضاً بين القصيدة، والمسلسل التلفزيوني، من ناحية الشكل الفني المعتمد لعقد المشابهة. ومن المستحسن التذكير بهذا الصدد بقصيدة أدونيس التي أهداها إلى عبد الناصر إثر وفاته مؤكّداً في الإهداء أن عبد الناصر هو الذي أنهى عصر ملوك الطوائف، وابتدأ العصر الآخر.

من أهم ما يعانيه النص يتمثّل في فقدان المصداقية التاريخية للحقبة التي يتخذها إطاراً عامّاً من أجل إسقاطه على الراهن. ويبدو أن الرغبة في الإسقاط الميكانيكي، وإبراز عناصر المشابهة جعلت الكاتب يغفل الكثير من طبيعة تلك المرحلة. ويُضاف إلى ذلك ضحالة معرفته بالتاريخ حتى ضمن حدوده المدرسية العريضة، إذ أشار في معرض الحديث عن اضطهاد أئمة المذاهب السنّية الأربعة إلاّ أن الإمام أبا حنيفة قُتل على أيدي عبد الملك بن مروان، وهذا خطأ لا يقع فيه طالب في المرحلة الثانوية.

وفيما يتعلق بعلاقة الإسبان باليهود، فالمعروف في هذا السياق أن اليهود كانوا في حماية العرب، وأنهم اضطُهدوا على أيدي الإسبان بعد سقوط غرناطة مثلما اضطُهد العرب، وربما أكثر، وأن إسبانيا الكاثوليكية لم تعترف بإسرائيل حتى ثمانينات القرن العشرين وبداية انخراطها في المنظومة الأوروبية، سوقاً، واتّحاداً. ولم يكن رفض الاعتراف كرمى للعرب، ولا كُرمى لسواد عيونهم، بل كان ذلك بسبب التعصب الكاثوليكي الذي يحمّل اليهود وزر صلب المسيح إلى يوم الدين، وبقي هذا المعتقد الكاثوليكي قائماً إلى أن قام البابا "البولوني" يوحنا بولس السادس بتبرئة يهود اليوم مما فعله أجدادهم بحق المسيح.

جعل النص المعتمد بن عباد يُقدم على قتل رسول يهودي أرسله الإسبان، وقد بدا ذلك مداعبة ساذجة لعواطف المتفرجين الذين يرى المؤلف أنهم يرحبون، ويطربون لقتل أي يهودي، في أي مكان، وأي زمان، ومهما كان الظرف، وحتى لو كان القتل قتلاً مجازيّاً بواسطة التخييل المسرحي. ولا يكتفي النص بذلك، بل يأتي بتأييد الشرع للعملية على لسان من سماه النص "قاضي الجماعة". ومن مثالب النص ما يفوح به من روائح عنصرية تجعل العرب عرقاً مضّلاً بصورة مطْلقة، إذ يورد على لسان "أبي بكر" قاضي الجماعة ما نصّه: "والله لأن نرعى جمال العرب في الصحراء أحب إلينا من رعي خنازير الإسبان في قشتالة. ص 65". وكأن الرعي الذي يفترضه النص على لسان القاضي الفقيه هو الخيار الوحيد للمسلمين.

ولا يكتفي النص بذلك بل يتحدث عن البلاء الذي وقع فيه المشرق العربي حين استُبدلت كتائب الفتح بذلك الخليط العجيب الذي يشير إليه النص بعنصرية فظّة: "تلك الكتائب حل محلّها خليط عجيب من لصوص أرقّاء، خصيان، فرس، ديلم، روم، أرمن، كرج، أكراد، يهود، مانويون، صابئة، كلدان، آشوريون، وكلهم يدينون بدين واحد هو الدينار. ص 89".وبصفتي قارئاً سورياً يمارس العيش في بلد شديد الثراء بتنوّعه البشري، ويمارس المواطنة على أرضه أعداد من الذين دعاهم النص خليطاً عجيباً من الأرقاء واللصوص والخصيان، ولي الحق بأن أجزم بأن كاتب النص يفتقر إلى أية معرفة بالآشوريين، والكلدان، والأرمن، والأكراد الذين لا يمكن تخيّل شيء اسمه سوريا من غير وجودهم. كما يمارس النص كثيراً من "التنقير" على أوضاع المشرق واتهام أبناء المشرق بالتقاعس عن خطر اليهود، مقيماً من خلال ذلك جداراً صارماً بين المشرق والمغرب، جاعلاً المغرب العربي الكبير مبرّأ ونظيفاً من كل ما يعانيه المشرق.

يقع النص في مغالطات تاريخية كما سبقت الإشارة، ويقع أيضاً في نوع من السذاجة الفكرية والعجز عن إقناع أي قارئ، وأؤكد على دور القارئ لأن النص يبدو غير قابل للعرض على الخشبة، لأنه مقتصر على الحوار بين شخصيات، فنحن نجد ملك الإسبان على سبيل المثال يستعمل عبارات عربية مقتطعة من التراث الثقافي العربي، كما في حديثه عن ذلك اليوم الذي "تشيب لهوله الولدان" ونجد البطريرك الإسباني يستعمل مثل ذلك حين يقول: "فإن رضي المعتمد فبها ونعمت" والأنكى هو اندفاع البطريرك الإسباني الكاثوليكي المتعصب إلى تفسير حلم الملك الإسباني بآيات من القرآن الكريم لا يعرفها إلا عالم فقيه بدقائق القرآن، وتفاسيره، كما في عقد الصلة بين الطبل في حلم الملك، والناقور في سورة "المدّثر": " فإذا نُقر في الناقور* فذلك يومئذ يوم عسير".

ومع ذلك، ربما يشفع لبعض اللهجة الخطابية وجودها أنها استطاعت وصف حال حكام العرب اليوم، بلسان أقل أعدائهم شأناً: "ما دامت لهم أطماعهم الصغيرة، وحزازاتهم، وعروشهم، وما دام لنا ذهبنا، وعيوننا، ولتمنعهم من التوحد يا شانجه حافظ على عروشهم، واضرب بعضهم ببعض، وأخف أحدهم من الآخر. ص 21".

2/4- "تجبر يا عبد الجبار" لسالم فيتور هي المسرحية الأكثر انخراطاً في لعبة الفرجة المسرحية رغم المباشرة التي تطغى على النص، ورغم اكتظاظ النص بالشعارات والعبارات المعدّة للهتافات، وهو ما يؤكده كاتب النص حين يجعل خاتمة العرض تنتهي برقص جماعي، إذ "يخرج الراقصون مع بقية الممثلين في مقدمة الجمهور في حركة إيقاعية تعبر عن التلاحم الجماهيري. حيث يُختتم العرض المسرحي خارج المسرح. ص88".

يبدأ الكاتب في ملاحظاته التمهيدية لعبته المسرحية بهدم ما يسمى في الاصطلاح المسرحي بالجدار الرابع، ذلك الجدار الوهمي القائم بين الممثلين على الخشبة وجمهور المتفرجين، ويتمثّل ذلك باندساس بعض الممثلين بين متفرجي الصالة،ومشاركتهم في الحوار والأحداث، من مواقعهم على مقاعد المتفرجين، أو بواسطة القفز إلى الخشبة، ويُضاف إلى ذلك حرص الكاتب على إشراك عناصر غير لغوية في تكوين المناخ العام للعرض، كالإضاءة المتدرجة، والإظلام، والموسيقا الراقصة، وتلوين الضوء، ومحاولة إشراك الجمهور، ويبدأ كل شيء من المخرج الذي يقول إنه سيقدم عرضاً تجريبياً، وهو ما يذكرنا بافتتاحية مسرحية سعد الله ونوس "حفلة سمر من أجل 5 حزيران" التي يفتتحها المخرج/الممثل بزعم مفاده أنه سيقدّم حفلة سمر تذكرنا بـ 5 حزيران، وبالقرى التي قضمها العدو في هضبة الجولان، ليصعد بعد ذلك على الخشبة عدد من الممثلين الذين كانوا مندسين بين الجمهور ويشكلون العرض، وهذا ما فعله "عبد الجبار" في مسرحية سالم فيتور حين أثار مشكلة البحث عن مقعده في الصالة، ثم جعل نفسه مركز الحدث. مع الإشارة إلى أن هذه اللعبة المتمثّلة في هدم الجدار الرابع ليست من ابتكار سعد الله ونوس فهو قد اقتبسها من المسرح العالمي.

يتصدى لعبد الجبار عسكريان، وينخرطان معه في حوار عبثي يحيلنا على المواطن "كاف" في "المحاكمة" لكافكا، مع فرق يتمثّل في أن عبد الجبار ينطق دوماً بما يعتمل في نفس المواطن العربي، فهو مثلاً يحتج على لغة التصفيق قائلاً: "هكذا نحن نصفّق في الفشل، ونصفّق في النجاح. ص 17" وهو أيضاً يحتجّ على أداء الحكومة والقانون الذي تضعه القلة: "أية حكومة، وأي قانون هذا الذي تضعه القلة. من أعطاكم الحق في ممارسة القهر على مواطن جاء هذا المسرح بغرض الفرجة. ص 46". ويجعله النص أيضاً يلقي بياناً سياسياً بلهجة تحريضية: "نحن الجماهير يجب أن نكون الطرف الأقوى في السلطة وبذلك نقطع الطريق على حكم الفرد المستبد أيا كانت صفته.. بل ونرفض أيضاً حكم النخبة ونتصدى لها مهما كانت مبرراتها. ص 65".

غير أن أجمل ما في النص يتمثّل في تمكين السلطة من عرض وجهة نظرها بلسان العسكري الذي يقول: "لماذا هذا الإفراط في الإنجاب، إنك بذلك تشكل عبءا ثقيلاً على ميزانية الدولة.. وتسبب ازدحاماً شديداً في الشوارع ووسائل النقل.. واكتظاظاً في الفصول الدراسية.. وتأخذ فرصة غيرك في العلاج المجاني. ص 32، 33".

وفي اعتراض العسكري على فن المسرح بوصفه حراكاً اجتماعياً يمثل أبرز أوجه التوفيق في بناء هذا النص الذي أساءت إليه لهجته الخطابية لفكرة الجماهير، فلطالما عُدّ المسرح مظهراً من أرقى المظاهر التي أنتجتها البشرية لممارسة "الاجتماعية" فالمرء يأتي إلى المسرح ليمارس تلك الاجتماعية المتضائلة إلى حد التلاشي والعدم. هذه الاجتماعية هي أكثر ما تخشاه السلطات، ولذلك حاربتها، ومسختها، وأحاطتها بمختلف الشبهات، وتضافر ذلك بالهجمة الشرسة اللئيمة التي تمارسها التكنولوجيا المعاصرة للإجهاز على ما كان قد تبق من تلك الاجتماعية، فصار من النادر أن يذهب المرء إلى المسرح، لأن المسرح صار داخل شاشة التلفزيون، ومن النادر أن يذهب المرء إلى السينما، لأن السينما صارت في البيت، ولم يعد أحد يزور أحداً، لأن الهاتف النقال صار هو مكان الزيارة، وحل محلّ ما كان من أشكال متاحة للتواصل الاجتماعي.

2/5- ثلاثية "الليل" لعلي الفلاح مكتوبة بالمحكية الليبية المستعملة في بنغازي، التي فهمت أنها تختلف عن محكية طرابلس وغرب ليبيا، والثلاثية مشفوعة بمقدمة حماسية جميلة كتبها الشاعر محمد الفيتوري بلغته الرائقة العذبة القادرة على الذهاب بالقارئ إلى حيث يريد الكاتب، ولا أكتم أن تلك المقدمة ضاعفت كمية الإرباك الناجم عن قراءة نص طويل "ثلاثية" بمحكية بلد لم أزره، ولا أكتم أيضاً أن تكرار القراءة لم يستطع أن يسهل أمر التواصل مع نص مكتوب بالمحكية، وهو ما يجعل طرح مسألة تدوين المحكيات العربية على بساطي الوعي والبحث طرحاً ملحّاً. ولا بدّ من الإشارة إلى أن المشكلة ليست خاصة بالسعي إلى تدوين المحكيات الليبية دون سواها، فالمشكلة قائمة مع مختلف المحكيات السورية بما في ذلك محكية المنطقة الضيقة التي انتميت إليها يوماً بفعل الولادة.

إن بعض مشكلة الكتابة بالمحكيات العربية يتمثّل في مسألة رسم الألفاظ قبل البحث عن معانيها ودلالاتها، فثمّة لغات غير عربية أشهرها الفارسية تستعمل الحرف العربي لرسم ألفاظها، لكنها لغة أخرى، لا يمكّنها تدوينها بالحرف العربي من جعلها مفهومة للقارئ العربي، إن قراءة المحكيات العربية تشبه قراءة لغات أخر تستعمل الرسم العربي، وربما لو أصغى المرء للمحكية ملفوظة لاستطاع المستمع أن يحوز كمية من الفهم، أكبر من تلك التي يحوزها بفعل علمية القراءة.

تبدو الثلاثية منتمية إلى الفنون التي تجمع بين الفرجة والمسرح. وعناصر الفرجة الجاذبة لا تقتصر على استعمال محكية بنغازي وإحداث الأثر بمجرّد استعمال المحكية بنطقها المميز على خشبة المسرح، بل تتعداها إلى الشخصيات المبنية، واستعمال ما يشبه الأهازيج والأسجاع خلال الأداء الصوتي، بالإضافة إلى استثمار المعتقدات الشعبية السائدة ممثلة بالحضور الدائم لشخصية الجني في مختلف المشاهد، وجعل شخصية المرأة الليبية "سدينة" أقوى من الجني وأكثر مكراً وكفاءة في أداء مختلف الأعمال التي تُطلب في العادة من الجنّي.

وقد أنتج استعمال شخصية الجني في العمل بعض المفارقات المتداولة في الإطار الشعبي، كما في حالة اللجوء إلى الجني لجعله يلبّي مطالب لا يستطيعها البشر، بوصفه كائناً يملك قدرات فوق طبيعية، لكن المشكلة كانت في أن ما يطلبه الشخص من الجني كان يُعطى للجار مضاعفاً. ومن المستحسن أن نشير في هذا الصدد إلى صعوبة إسقاط هذه المفارقة على الوضع السياسي العربي عموماً، على أساس جعل الجني تمثيلاً للقوى الكبرى التي تغدق أُعطياتها على أعداء البلدان العربية، لا على الجيران فقط، رغم عدالة المطالب العربية وشرعيتها القصوى. لأن كل شيء في الثلاثية يجري ضن الإطار الشعبي الليبي الصرف.

ومن المفارقات الشعبية المستثمرة في النص قصّة الكأس التي حازها أحد الأندية، وتنشأ المشكلة عندما يُدخل أحد اللاعبين رأسه داخل الكأس، ويستعصي في الداخل، فيقرر النادي قصّ رأس اللاعب بدلاً من قصّ الكأس حفاظاً على الكأس الثمينة. وهذه الطرفة متداولة في بعض النطاقات الشعبية السورية بصورة مختلفة قليلاً، حيث يُستبدل رأس اللاعب برأس ثور يدخل ويستعصي داخل خابية، وعندما يُستفتى شيخ طماع في حل المعضلة، يقترح قطع رأس الثور، وعندما وجد أن الرأس بقي في الخابية يقترح كسرها.

في الجزء الثاني "طاحن شناب الليل" أكثر العناصر اندغاماً في اللعبة المسرحية، وهو اللعب على الألفاظ المحكية التي تنتج نوعاً من الإرباك، حين نقرأ في النص: "مرة العيّل اللي زاد عَ العيّل اللي زاد عليكم.. زاد عليه عيل.. ص 77". ويُضاف إلى ذلك ما أُسند إلى "سدينة" و"خميس" من تأدية أسجاع عديدة والردح بها بمصاحبة ما يشبه الجوقة، والخروج من أداء الدور المنطوق إلى ما يشبه الإنشاد على غرار بعض المقاطع المؤدّاة في المسرح التجاري المصري على سبيل المثال، فمما يجري على لسان "سدينة": "هو ينبح ويجري من دار إل دار لا تغدى لا تعشى لا توضا ولا صلى، لا همد ولا تريح، شي يهرّ وينبح.. يجري ويردح.. ص 84".

* ثالثاً – ملاحظات ختامية
لا شكّ في أن الاقتصار على قراءة النصوص دون التمكّن من رؤيتها معروضة، لا يستطيع أن يلمّ بمختلف الدلالات والإيحاءات التي يكتنزها النص في ثنايا سطوره، ولذلك لا بدّ من معاودة التأكيد على أن المعالجة المنجزة معالجة تقتصر على النصوص المقروءة فقط.
سعت بعض النصوص إلى استثمار الإرث المسرحي العالمي، والإفادة من مختلف المنجزات في عالم الفرجة المسرحية على سبيل المثاقفة، وإخراج تجربة نصّية لاحقة، من تجربة، أو تجارب نصية سابقة، أكثر مما جاء ذلك على سبيل الاستيلاء على التجارب المنجزة لكتاب آخرين، فالأعمال المستثمرة في هذا الصدد صارت ملكاً لثقافة الإنسان في مختلف الأمكنة والأزمنة.

لجأت بعض النصوص إلى جعل المسرح مجرّد مطية لطرح أفكار سياسية مباشرة والكرز بها بصورة تبشيرية ساذجة إلى حدّ بعيد، ونفترض أيضاً أنها سيقت أيضاً في إطار تأييد نظام حكم سياسي ما، والزعم بأن نظام هذا الحكم هو الطريق الوحيد المتاح أمام العرب من أجل الخلاص، من كل المآزق دفعة واحدة، وأفترض أيضاً أن بعض المقاطع والشعارات التي وردت في "تجبر يا عبد الجبار" منقولة حرفياً عن كتاب سياسي معين.
افتقر معظم النصوص إلى العناصر التي تمكّنها من العرض أمام جمهور، وجعل العرض عملاً جاذباً، وكان النص المكتوب بالمحكية هو أكثر النصوص تمتّعاً بقابليته للعرض أمام المتفرجين، بينما طغى على النصوص الأخرى الحوار المقام بين شخصيتين، وهو حوار أقرب إلى الجدال، وسرد وقائع معينة، على طريقة بعض السرود المنجزة بواسطة الحوار بين شخصيات العمل.

كانت المساحة المتروكة لأداء الممثل مساحة ضئيلة عموماً باستثناء الدور الذي أُسند إلى "سدينة" في ثلاثية الليل، وربما كان المؤلفون يستشعرون افتقاراً عامًّاً إلى وجود ممثلين قادرين على الارتجال وتحريك مشاعر المتفرجين، ولذلك مالوا إلى ما يشبه الاقتصاد، وضغط نفقات العروض، بما في ذلك تقليص عدد الشخصيات المسرحية الذي يعني تقليصاً حتميّاً لعدد الممثلين، وضغطاً للنفقات في الآن ذاته.

كانت الشخصيات في معظم الأعمال المتناولة شخصيات ذات بعد واحد على المستويين الفكري والدرامي، فهي شخصيات أميل إلى السكون والثبات، لا التحول والتنامي، وقد أدى ذلك إلى نشوء مشكلتين محوريتين، تتمثّل الأولى في هبوط مستوى الأداء الدرامي، وهبوط مستوى الإثارة والجذب من الناحية الفنّية. وتتمثّل الثانية في طغيان أحادية النظرة السياسية والفكرية إلى المشهد السياسي القائم على مستويي المنطقة العربية والعالم.

لا يجوز وضع الأعمال المتناولة على سوية واحدة من الناحيتين الفكرية والفنّية، فقد بدا نص "الصوت والصدى" أكثر النصوص المشار إليها نضجاً، وبدت "ثلاثية الليل" أكثرها انتساباً لفنون الفرجة. لقد بدا أن كتاب النصوص مالوا إلى مسرحة رؤاهم للمشهد السياسي الراهن، بشكل خاص، فعرضوا رؤيتهم على طريقة توزيع أفكارها على ألسنة شخصيات تتجادل، وتمارس السجال، والسعي إلى إنجاز انتصارات لفظية، أكثر مما أنجزوا فناً مسرحياً، والسبب الرئيسي لذلك الافتقار يتمثّل في ضعف المعالجة الدرامية، وخفوت عنصر الصراع، وتنميط الشخصيات، وتلفيقها، وقسرها على اقتحام الواقع، والميل إلى الاقتصاد في عناصر الفرجة. باستثناء "ثلاثية الليل" التي يصعب عرضها – أو يستحيل – أمام متفرجين خارج ليبيا.

*رابعاً – النصوص المتناولة
1- الصوت والصدى – عبد الله القويري – المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان – طرابلس – ليبيا – ط "2" 1985.

2 – أوريست يعود إلى المنفى- البوصيري عبد الله – المنشأة العامة لنشر والتوزيع والإعلان – طرابلس – ليبيا- ط "1" 1985.
3 – الخيول الجامحة – عبد الكريم الدناع – الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان – بنغازي "ليبيا" ط "1" 1999.
4 – تجبر يا عبد الجبار – سالم فيتور – الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان – مصراتة "ليبيا" – ط 2000.
5 - الليل – "ثلاثية مسرحية" – علي الفلاح – مجلس تنمية الإبداع الثقافي – بنغازي "ليبيا" – ط "1" 2004.

معلومات متعلقة
تناولت هذه المساهمة خمسة نصوص مسرحية ليبية معاصرة، كُتب أحدها بالمحكية المستعملة في بنغازي. والنصوص تتفاوت من ناحيتي القضايا التي أخضعتها للمعالجة، وقابلية العرض، إذ يبدو النص المكتوب بالمحكية الليبية أكثر النصوص انخراطاً في لعبة الفرجة المسرحية، واقتداراً على جذب المتفرجين، لكن مشكلته تتمثل في عجزه عن التواصل مع متفرجين غير ليبيين، بالإضافة إلى شيء من استغراقه في لعبة المسرح التجاري التي تعتمد التهريج على الطريقة المصرية "التجارية" عنصراً رئيسياً في عملية الجذب وتحقيق النجاح. "الصوت والصدى" بدا أكثر النصوص تمتّعاً بالنضج والعافية الفكرية، بالإضافة إلى ثرائه بالقضايا التي يطرحها، لكنه انساق وراء الاستغراق في مناقشة الأفكار المجردة التي بدت منقطعة الصلة بالواقع المتعيّن، من جانب، وبدا بعيداً عن إمكانية تحوّله إلى عرض جاذب، بسبب اقتصاره على المجادلات النظرية العديدة، من جانب آخر.

و"أوريست يعود إلى المنفى" نص يقتبس الإطار التاريخي لما حدث في إحدى مدن اليونان بعد حرب طروادة، حيث قامت زوجة القائد الأعلى للقوات اليونانية التي دمرت طروادة باغتيال زوجها المنتصر لتبدأ إثر ذلك فصول درامية متلاحقة، ومترابطة فيما بينها ترابطاً سببياً، كانت المادة الأساس لنصوص مسرحية عديدة بدءاً من اليونان القديمة إل العصر الراهن، وتدور معظم الحبكات المسرحية حول شخصية إلكترا التي استغرقها حب والدها القتيل إلى حدود متطرفة. لكن صاحب النص الليبي يسّير نصّه في إطار سياسي مباشر منساقاً وراء ما يسمى بلعبة الإسقاط المسرحي، جاعلاً من ولدي الملك القتيل مناضلين في سبيل استرداد الحقوق المغتصبة، وما حال دون تمكنه من عملية الإقناع إسراف النص في المباشرة السياسية التي تتناول العلاقة بين الحاكم الطاغية والأكثرية المضطهدَة.

أما "الخيول الجامحة" و"تجبر يا عبد الجبار" فهما نصان سياسيان مباشران بامتياز، يقتصر الأول على مناقشة الأوضاع المزرية للعرب عموماً، وعرب المشرق خصوصاً، مستحضراً من أجل ذلك مرحلة ملوك الطوائف في الأندلس، وجاعلاً من شخصية فذّة أفريقية ذات مواصفات نبوية سبيل العرب الوحيد للخلاص، مسترشداً بهذا الشأن بأفعال يوسف بن تاشفين. ويعالج الثاني مسألة العلاقة بين المواطن والسلطة بنبرة خطابية طاغية، تُختتم بما يشبه العراضة الشامية، للإشادة بما سماه "التلاحم الجماهيري" إذ يختلط في إنجاز العراضة التي يريدها كاتب النص خارج المسرح الرقصُ والموسيقى والأهازيج والهتاف ورفع الشعارات. والنص يسع منذ صفحاته الأولى إلى هدم ما يسمّى بالجدار الرابع، من خلال جعل الممثلين، وعلى رأسهم "عبد الجبار" صاحب الدور الرئيسي بين صفوف المتفرجين.

لذلك بدت النصوص بمجملها نصوصاً حوارية أكثر مما هي نصوص مسرحية، رغم سعيها الحثيث إلى التقاط اللحظة المثيرة، والقضايا الساخنة لجعلها مادّة متداولة على الخشبة أمام جمهرة من المتفرجين.

المصدر: العرب أونلاين- د. صـلاح صـالح

قد يعجبك أيضا...

أضف هذا الخبر إلى موقعك:

إنسخ الكود في الأعلى ثم ألصقه على صفتحك أو مدونتك أو موقعك

التعليقات على خمسة نصوص مسرحية من ليبيا

كن أول شخص وأضف تعليق على هذا الخبر الآن!

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
21403

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري

خلال 30 أيام
خلال 7 أيام
اليوم
Most Popular TagsMost Popular Tags

مسرحية مكتوبة عن ثورة 25 يناير

,

مسرحية التدخين مكتوبة

, مسرحية مكتوبة عن المخدرات, مسرحية عن المخدرات مكتوبة, مسرحيات مكتوبة عن ثورة 25 يناير, مسرحيات عربية مكتوبة,

مسرحية مكتوبة عن التدخين

,

??????????????????????

,

مسرحيات مدرسية عن ثورة 25 يناير

,

مسرحيات مكتوبة

,

مسرحيات مدرسية مكتوبة عن ثورة 25 يناير

,

مسرحية مكتوبة

,

مسرحيات مكتوبة عن التدخين

,

مسرحيات ليبيا

,

نصوص مسرحية مدرسية

,

مسرحيات اطفال مكتوبة

,

مسرحيات اجتماعية مكتوبة

,

مسرحيات مغربية مكتوبة قصيرة

,

نصوص مسرحية مغربية

,

مسرحيات مكتوبة للاطفال

,

نصوص مسرحية عالمية

,

نصوص مسرحية عن التدخين

,

مسرحيات قصيرة مكتوبة

,

الوقت المستغرق في مسرحيات الاغريق

,

نص مسرحيه شخصياه متعدده فى شخصيه واحده

,

مسرحيات للاطفال مكتوبة

,

نصوص مسرحية قصيرة

,

نصوص مسرحية مكتوبة

,

مسرحيات للاطفال مكتوبة قصيرة

,

مسرحيات مدرسية مكتوبة قصيرة

,

مسرحية مدرسية عن ثورة 25 يناير

,

مسرحية مسيحية مكتوبة

,

مسرحيات مدرسية عن ثورة 25 يناير مكتوبة

,

مسرحية مكتوبة حول المخدرات

,

مسرحية مكتوبة حول التدخين

,

نصوص لمسرحيات مكتوبة حول العلم

,

مسرحيات اجتماعية مكتوبة وقصيرة

,

مسرحية عن الاقناع

,

نص مسرحي عن التواصل مع الغير

,

أمثلة عن نصوص مسرحية اجتماعية

,

مسرحية حول التدخين مكتوبة

,

مسرحيات مكتوبة باللغة العربية

,

نصوص مسرحيات

,

مسرحيات مدرسية مكتوبة عن الثورة

,

مسرحيات مكتوبة عن المخدرات

,

مسرحيات مغربية مكتوبة

,

مسرحية عن الثورة مكتوبة

,

مسرحية مكتوبة للأطفال

,

مسرحية اطفال مكتوبة

,

مسرحيات مكتوبة قصيرة

,