آخر الأخباراخبار الفن والثقافة › الاستشراق.. رحلة في المغامرة البكر

صورة الخبر: الاستشراق.. رحلة في المغامرة البكر
الاستشراق.. رحلة في المغامرة البكر

يعدُّ تمثيل القوافل السارية في الصحراء ورسم الواحات والمدن الشرقية، فضلا عن تقديم مشاهد عن شرق ساحر باهر "الحريم والمحظيات" مشاهد تنتمي كلها إلى واحد من التيارات الأكثر حضورا في القرن التاسع عشر، ونعني به الاستشراق. فلقد حازت الدول الإسلامية على اهتمام العديد من الفنانين ذوي الأنساق والأساليب المختلفة فأنتجوا في موضوع موحد انحصر في كل ما هو شرقي.. فمثّل الشرق أرض الحرية والغموض والعاطفة ومسرحا لكافة المشاعر الفياضة، حيث العنف والقسوة يتماهيان مع الألوان والروائح والأضواء الباهرة.

من الفنانين الذين وجدوا في لحظة الاستشراق إلهاما مؤقتا يمكن الإشارة إلى دي لاكروا وجيروم ... الخ.". ومنهم من ارتبطت حياتهم بأكملها بهذا الشرق الذي أضحى مصدر فضول لذلك البعيد المتوهج الأنوار.. أما في مجال التقنيات فلقد تغيرت الأساليب على مدى قرن كامل، من ديلاكروا إلى رينوار، حيث السياق التقليدي يستمر مع القوة.

والحق أنه لا يمكننا الحديث عن الاستشراق دون الحديث عن السفر، فعلى الرغم من أن العديد من الفنانين لم يغادروا ورش عملهم إلا أن أعمالهم جاءت مستوحاة من الصور أو المقتنيات التي كان يأتي بها المسافرون. وتجدر الإشارة هنا إلى أن السفر في ذلك العهد لم يكن يخلو من المخاطر "الأمراض الغريبة وغارات قطاع الطرق ..." مما زاد من لفت انتباه الكثير من أصحاب الميولات المغامرة للمبيت تحت الخيام وتحت النجوم وسط الخيول والنوق. بعض المدن الشرقية رحبت بهؤلاء المسافرين المتميزين فوفرت لهم ورش العمل على غرار ما كان متواجدا بالقاهرة، بل تمّ تحديد مسارات معينة كان أهمها مسار الجزائر والإسكندرية والقسطنطينية.

لقد اختار بعض الفنانين العيش بشكل لصيق مع الأهالي وأفراد الشعب الفقير المتواضع، تماما كما تمّ ذكر تلك الفئات في الكتاب المقدس في العديد من المرات "غيوميه" حيث نبل الصحراء "فرومنتين". فنانون آخرون، خاصة في نهاية القرن، حدّدوا نهائيا مصيرهم فسكنوا البلاد الشرقية "جاك ماجوريل" ومنهم من اعتنق الإسلام و انخرط في حياة البلاد التي نزلوا بين أهلها "إيتيان دينيه – نصر الدين دينيه".

ويمكن أيضا ربط السفر إلى الشرق بالبحث و السعي وراء حياة دينية تكون أكثر انسجاما وهذا ما ينطبق على سبيل المثال على ألكسندر بيدا "1813-1895" الذي اعتقد أن تعزيز إيمانه مرهون بالتواصل مع الروحانية الشرقية فآمل - على إثر ذلك - في تجديد اللوحة الدينية. لقد التقى هذا الرسام "ألكسندر بيدا" بارنست رينان في مدينة القدس عندما كان هذا الأخير يبحث عن وثائق تتعلق بالمسيح، وكنتيجة لهذا اللقاء حاول الاقتراب من نموذج الرسم المسيحي. وليس من الصدفة أن نجد ذات النهج لدى الرسام رفائيليت - هانت – حيث يتجلى ذلك بوضوح في لوحته "كبش الفداء "1854-1855".

وهكذا نجد أن جميع المدارس الغربية في الرسم قد شاركت في إنعاش هذا الشغف المجنون وفي مقدمتها المدارس الفرنسية والبريطانية. ويمكن القول بأن هذا الوله لم يكن مقتصرا على الرسامين وحدهم بل تعدى إلى النحاتين والمهندسين المعماريين والموسيقيين حيث أنهم وقعوا جميعا تحت تأثير ذات الشغف وذات السحر والإنبهار.

الأصول
بصرف النظر عن الصراعات والحروب الصليبية، فالعلاقات بين الشرق والغرب كانت قائمة حتى نهاية القرن السابع عشر على النشاط التجاري، حيث كانت هناك تعاملات اقتصادية رائجة مع مدينة البندقية ومع الإمبراطورية العثمانية. وخلال القرن الثامن عشر، بدأ الشرق يثير فضول الغرب، إذ ضمنه ترجم الكاتب انطوان غالان عام 1704 أول ترجمة فرنسية لقصص ألف ليلة وليلة.
أما مونتسكيو، فكتب سنة 1721 الرسائل الفارسية فضمنها مراسلات وهمية بين اثنين من المسافرين الفارسيين وهما يزبك وريكا. وبذات النسق شاعت وراجت المقتنيات التركية والسجاجيد وأقمشة الحرير والأواني الخزفية والتبغ والبن والأزياء والديكور والموسيقى وما إلى ذلك. والحق أن الرسم قد استخدم لدى بعض السابقين المشهورين مثل بيليني خلال القرن الخامس عشر ورامبراندت في القرن السابع عشر فظهرت مسحة الشرق الساحر في أعمال باوتشر، أميدي فان لو، وفيما بعد عند إنجرس مع جواريه.

وبشكل أكثر واقعية ظهرت تلك السمة الشرقية مع "رسامي البوسفور" الذين اتخذوا من القسطنطينية محط رحالهم. من بين هؤلاء نجد الجنوي جان إتيان ليوتار"1702-1789" الملقب بـ "الرسام التركي" بسبب اعتماده على الأزياء الشرقية. هناك أيضا المهندس المعماري والرسام أنطوان إيغنياس مللينغ "1763-1831" الذي عُيِّنَ مهندسا معماريا لإمبراطورية سليم باشا الثالث والذي اهتمّ خلال رحلته إلى القسطنطينية عبر مضيق البوسفور "1819" في رسم مناظر المدينة الخلابة.

القرن التاسع عشر
لقد بلغ الشغف بالشرق خلال القرن التاسع عشر حدّ الجنون فأصبحت الأسفار إليه أكثر من أي وقت مضى، سيما وأن وسائل السفر كالباخرة والسكة الحديدية قد سهلتا المهمة بشكل كبير. فضلا عن هذا، ساهمت بعض الأحداث التاريخية في تنامي هذه الظاهرة ومنها يمكن ذكر ما يلي:
- الحملة على مصر "1798 – 1799"
- حرب التحرير اليونانية "1821-1829"
- الأزمة مع مصر و محمد علي "1821-1841"
- الاستيلاء على مدينة الجزائر من قبل الفرنسيين "1830"
- حرب القرم، "1854-1855"
- وافتتاح قناة السويس "1869"

وفي هذا الإطاروقع بعض الكُتاب أسرى الشرق ومنهم المسافر الكبيراللورد بايرون "1788-1824" الذي زار مصر وألبانيا واليونان والإمبراطورية العثمانية فكتب جياوور وعروس أبيدوس والقرصان ولارا. أما فيكتور هوغو فكتب "المشرقيات" -1829" " بينما اكتشف غوته الشعر الفارسي من خلال أشعار حافظ الشيرازي فألّف ديوانه الأخير "الديوان الغربي الشرقي "1827"". أما فيما بعد فلقد جاء تيوفيل غوتييه وكتب روايته الموسومة بـ "الموياء" - "1857 ".

يعتبر أدب الرحلة نوعا أدبيا ناجحا افتتح على يد ألكسندر دي لابورد "1806-1820" بكتابه الموسوم "الرحلة الرائعة والتاريخية لإسبانيا". من بعد ذلك جاء عدد من الرحالة الأثرياء من أمثال جيرو دو برانيي "1804-1892" والكونت فوربين "1777 – 1841". هذا وقد أسهم اختراع الطباعة الحجرية في عام 1796 في تشجيع نشر الكتب الفاخرة والمدعمة بالصور، بينما ساهمت مجلات كـ "المجلة الخلابة" وكذا "دورة حول العالم" أو "الصحيفة الجديدة للأسفار "1860" على نشر هذه الصيغة الوصفية بالاعتماد على العديد من المستشرقين.

ولا غرو أن نجد نصوصا ذات طابع أدبي أنتجها لامارتين "رحلة للشرق – 1805"، وشاطوبريان وفلوبير وماكسيم دي كون. أما الرسامون فهناك أوجين فرومنتين "1820 – 1876" الذي يعد أحد أهم المستشرقين في القرن التاسع عشر من حيث أنه زاوج بين مهمتين: الكتابة والرسم. فلقد عرف شهرة معتبرة سنة 1857 حينما أصدر كتابه "صيف في الصحراء" وبعهدها كتابه "عام في الساحل"1859.

وصف مصر
لقد شكلت مصر منذ البداية وجهة أساسية للمستشرقين. فـ "الهوس" المصري بدا واضحا منذ حملة نابليون بونابرت سنة 1798 وإلى غاية 1801. بعد ذلك تبلورت الرؤية وأصبحت أكثر واقعية، فاتجه العلماء والفنانون إلى الاهتمام بالآثار والإثنوغرافيا. ضمن هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى شخصية رئيسية ألا وهي دومينيك فيفان دينون "1747-1825" الكاتب الرسّام والدبلوماسي الذي رافق بونابرت إلى مصر حيث دأب من على صهوة جواده على وصف العمليات العسكرية باستخدام الحبر البني والرسومات بقلم الرصاص للمواقع الأثرية والمشاهد اليومية وغيرها من الصور.

وبهذه الطريقة دوّن هذا الرسام ذكرياته التي عايشها في أسفل وأعالي مصر "1802". وفي ذات الوقت، انكبت لجنة العلوم والفن على "توصيف مصر" الذي صدر ما بين 1809 و1826، وهو الإصدار الذي غاب عن صياغته والمشاركة فيه السيد دينون. يتكون هذا العمل الجماعي الذي موّلته الحكومة من 10 مجلدات ومن 974 لوحة "بعضها بالألوان الطبيعية" فجاءت تسعة مجلدات منه في هيئة نصوص وكتابات. أما المجلد العاشر فكان عبارة عن أطلس مطعم بالخرائط. لقد شكّل هذا العمل أحدث دراسة ضخمة نشرت وقتئذ باعتباره يتألف من مجلدات ضخمة مخصصة للتحف الأثرية.

لقد شكّلت هذه النصوص والبيانات مرجعا استثنائيا للفنانين من عهد "غرو، جيرودي، غيران، من حيث اشتمالها على مشاهد السوق في القاهرة "سوق العبيد" والديكورات الداخلية للمساجد "مسجد المجنون بالقاهرة" واسهامها في اكتشاف الإنسان الشرقي وما إلى ذلك. ضمن هذا البعد استخدم أنطوان جان غرو "1771-1835" "سفر إلى مصر السفلى والعليا" لرسم لوحة "معركة الناصرة "1801"" وكذا "معركة أبوكير" "1806" و "زيارة بونابرت إلى مرضى الطاعون بيافا" "1804" وقد لاقت هذه اللوحة الأخيرة شهرة باهرة في صالون العمارة الإسلامية والزي الشرقي ذي النغمات الدافئة. في وقت لاحق وتحديدا في عام 1828 صور ليون كونيية عمليات التنقيب الخاصة بالفضاءات الأثرية الجديدة لمتحف اللوفر.

سنوات الرومانسية
في سنة 1821 وبعد أربعة قرون من الاحتلال العثماني ثار اليونانيون. لقد أعقب تمرد اليونانيين الدهشة في جميع أنحاء أوروبا. بعد سقوط ميسولونغي سنة 1826 استضافت الأوساط الفنية الباريسية معرضين خصصا "لصالح اليونانيين". في تلك التظاهرة شارك بشغف كبير كل من دي لاكروا، جيريكو، هوراس، فيرنيه، وشيفر. وفي غضون ذلك الوقت أيضا كانت إيطاليا ريزورجيمينتو تحاكي نموذج هذا الشعب الرافض. إبان تلك الحقبة تضاعفت رحلات الرسامين إلى الشرق ومنهم الألماني بيتر فون هيس "1792 - 1871" وكارل روتمان "1850 – 1797" والانكليزي وليام آلان "1782 - 1850" الذين اتخذوا من وجهة اليونان هدفا لفضولهم.

أما الاسكتلندي ديفيد روبرتس "1796-1864 "فاتجه نحو اسبانيا والمغرب ومصر والأراضي المقدسة، و بعده جاء ألكسندر غابرييل دي كامب"1803-1860" الذي مضى إلى غاية آسيا الصغرى بينما سافر بروسبيرماريلات "1811-1847" إلى مصر وسوريا.

حري هنا الانتباه إلى أن رحلات الفنانين كانت تبرمج ضمن مهمات عسكرية أو دبلوماسية "مثلما حدث الأمر مع دولاكروا وهوراس فرنيه بعد الاستيلاء على مدينة الجزائر في 1830". ومهما يكن من أمر فقد ضاعف الاستشراق - بما لا يدع مجالا للريبة - من الإشعاع اللوني للرومانسية الفرنسية.

- ألكسندر غابرييل دي كومب "1803-1860": كان غابرييل دي كومب واحدا من الرسامين الرومانسيين الأوائل ممن استكشفوا الشرق. ففي سنة 1828، رافق لويس غارنراي الذي تعهد برسم معركة نافارين. لقد أقام هذا الرسام في سميرنا ما ينيف عن عام وهنالك أنجز لوحات اعتمدت الممازجة بين الظلال وأشعة الشمس: "لقد تصور أنه باستعمال الكثير من الظلال سيتمكن من خلق بعض الشمس" – فرومنتين.

أما أعماله فتتميز بتقديم نماذج من التجار والعبيد والوجوه المحددة في مناظر طبيعية فسيحة، فهو يعبث بالألوان ويبالغ فيها إلى حد يتحول الأشقر فيها أحمرا والأحمر بنيا ثم خمريا ... انفجار كل الألوان الحمراء ميزة أساسية في لوحاته فهو يصفف طبقات الطلاء باستعادة عمله مرارا و تكرار فيضفي عليها بإفراط طبقات عجينية إلى أن يجعل ملمسها وبريقها عاجيا. أمام لوحاته نشعر بأن رامبرانت ليس بعيدا على الإطلاق.

- بروسبر ماريلات "1811- 1847": اكتشف ماريلات اليونان وسوريا وفلسطين ومصر رفقة عالم الطبيعيات النمساوي البارون كارل ألكسندر فون هوغل دو روزنبرغ. ولقد دفعه ولعه التقني بالدقة والمثالية في رسم المناظر إلى تشكيلات كلاسيكية تذكرنا أحيانا باللورين.

- أوجين دي لاكروا "1798- 1863": إذا كان هناك رساما سحره الشرق و سلب لبّه فهو بلا منازع أوجين دي لاكروا حيث يتجلى ذلك في "مجزرة سيو" – 1824 وفي "موت ساردنبال" – 1827. لقد اتخذ من الرسام غرو كمثال "ارتقاء الرسم لمصاف التاريخ، ثراء المشاهد... إلخ" وقراءته المتأثرة لبايرون استطاع أن يحلم بشرق يتفتق بالنار. في سنة 1832 وخلال خمسة أشهر رفقة بعثة دبلوماسية قادها الكونت مورناي اكتشف دي لاكروا شمال إفريقيا بدءا من طنجة ومكناس ومرورا بالجزائر فشكّلت هذه الرحلة منعرجا أساسيا في مساره. لقد اهتم بصورة لافتة بالأضواء ضمن كلاسيكية حية وجديدة.

فبالنسبة إليه "لم تعد روما هي روما" لأن الأزياء البيضاء للمغاربة أعطت لشخوصه هيئة أخرى. هذا وقد ولّدت هذه الرحلة لدى دي لاكروا عشقا جديدا. لقد أصبح متعلقا بالخيول وبشكل عام بكل ما يختص بالحيوانات الشرقية التي ترمز للبربرية التي تجمع الفارس بالحيوان في تناغم الألوان الزاهية.

- ثيودور شاسيريو "1819- 1856": بدعوة من حاكم قسنطينة، تمكن شاسيريو من زيارة الجزائر خلال الفترة الممتدة من شهر ماي إلى شهر جويلية 1846. اختار صديق ماريلات هذا والذي كان قد أتقن أسلوب إينغر ودولاكروا تمثيل الطبيعة بأكثر واقعية فمزجها برؤيته الراقية للعالم. لقد انبهر ببهاء الأزياء خاصة "القطيفة الخضراء، الألبسة الصفراء، التسريحات المتنوعة الألوان، الأزرق الفاقع، الأحمر البنفسجي، الأسود الرائع في أحايين أخرى، الوجوه الملونة بحدة على الخلفيات البيضاء، الألوان الزاهية للشرق".

- هوراس فيرنيه "1789 – 1863": تعتبر الجزائر أولا وأخيرا بلدا للاستشراق العسكري. فمنذ سقوط الجزائر العاصمة في 05 جويلية 1830 رافق جمع من الرسامين جيش لويس فيليب ومن هؤلاء يمكن ذكر كريبين – غودين – إيزاباي، دوزاتس "1804 – 1868". أما فيرنيه فقد غادر فيللا ميديسيس بروما سنة 1833 من أجل مشاركة انتصار فرنسا. كان الرسام الرسمي للحملة ضد قسنطينة حيث انطلق بحرا من تولون وليستقبل من قبل الجيش في بونة "مدينة عنابة حاليا". إلى غاية 1841 اشتغل على إنجاز أربعة عشرة لوحة لقاعة قسنطينة بفيرساي كما خصصها أيضا لسقوط المدينة المتنقلة – الزمالة – للأمير عبد القادر على يد الدوق أومال "1845" والتي كان عرضها 21 مترا.

ففي اللوحة، أظهر الرسام سقوط قسنطينة وتتويج لاموريسيار و في وسط الجيش يبدو الكولونيل شانغارنيه. أما معركة "الهربة" فتصور حلقة من كمين حيث يبدو العدو مندحرا على مرتفعات لويدات العاطي. من خلال هذه اللوحات يبين الرسام مهاراته فيضع أمام أعيننا المشهد بأكمله: في المقدمة المحاربون وفي البعيد فرق الهجوم، ثم تفاصيل هنا وهناك لكشف الحقائق.

في سنة 1839 نزل هوراس فيرنيه عبر الصحراء بمصر وسوريا والقدس ودمشق وبعدها بسميرنا والقسطنطينية. في عام 1845 أبحر باتجاه وهران مرورا بميناء طنجة. وإذا كان قد أعيب في الماضي على هذا الرسام ملؤه الفاضح للوحاته إلا أن الجميع اليوم يعترف له بحسه السردي الفائق والخارق، حيث أنه استخدم جملة من الألوان الزاهية بكثير من السهولة في التنفيذ. لقد أجهد نفسه في البحث عن الحقيقة مثلما وضّح ذلك في تقريره إلى أكاديمية الرأي حول التشابهات المتوفرة في الملابس القديمة لليهود من جهة وعرب العصر الحديث من جهة ثانية "1847". أما في سميرنا، فلقد أشار إلى أنه كان "يخصُّ الكتاب المقدس تحديدا بالاهتمام. أما الكتاب الذين لم يفهموا أن المشاهد التي قدّمتها كانت تمثل في كل دقيقة العهد القديم والعهد الجديد، فإلى الجحيم!"

فن الإثنوغرافيا
لقد بدا الفن خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر أكثر واقعية من حيث أنه استوحى تطوره من الاثنوغرافيا. لقد أصبح المشهد طريقة وأسلوبا في حد ذاته.

- جان ليون جيروم "1824-1904": اكتشف جيروم الشرق سنوات 1855 – 1856 ومنذئذ جعله مصدرا رئيسيا لإلهامه. لقد سافر رفقة المسرحي ليون أوجييه وأوغست بارتولدي النحات وغيرهما من الرسامين إلى مصر، ثم انتقل إلى سوريا وإلى القدس. في سنة 1868 سافر مجددا إلى مصر وإلى آسيا الصغرى. وفي سنة 1871 اكتشف تركيا ثم تعرف على إسبانيا والجزائر عام 1873. وفي 1879 تسنى له اكتشاف العالم العثماني.

يمكن اعتبار جان ليون جيروم رسام الإثنوغرافيا بامتياز من حيث تخصصه في اختزال المشاهد الخلابة "حياة الفلاحين على نهر النيل ...الخ" بتقنية رسم لا تشوبها شائبة في نضارتها وألوانها المتميزة. لقد كان لديه ميل خاص لمشاهد الحمامات العامة. بهذا الشكل أضحى للوحة جيروم دورا تعليميا يختص بتطريز الأزياء والهندسة المعمارية ... الخ.

- أوجين فرومنتين "1820- 1876": سافر فرومنتين إلى الجزائر سنة 1846. أحب مدينة الجزائر والصحراء وسكانها. "نعم ، إن هذا البلد لعظيم حقا فهو يمتلك العظمة لوحده لأنه وهو في عزلته بين لطائف الدنيا بقي بسيطا في حياته وتقاليده وأسفاره. إنه بهي، إذ من دون أدنى عري تمكن من أن ينزع عنه القشور". عاود فرومنتين السفر إلى الجزائر لمرتين "1847-1848 و 1852-1853" وبعد ذلك عندما تم افتتاح قناة السويس انطلق في 1869 لاستكشاف مصر.

تأتي المناظر الطبيعية لدى هذا الرسام في مقدمة كل شيء. فلقد كان في البداية متأثرا بماريلات ثم سار على خطى كورو معتمدا على الملمح الرمادي الممزوج بالأخضر والأحمر الشفاف. تبدو الحالة لديه شفيفة كابتسامة خفية أو كالألق النابع من الأحجار الكريمة. أحبّ الخيول فرسمها في لوحته "مطاردة بالصقور" "1863". أوجد توازنا رائعا بين الوجوه والمناظر الطبيعية. أظهر قسوة الصحراء في لوحته الموسومة بـ "أرض العطش" - "1869".

ناهيك عن هذا، فقد كان فرومنتين كاتبا أيضا باعتبار أنه أصدر كتابين: "صيف في الصحراء" - 1857 و"سنة في الساحل" 1859.

- غوستاف غييوميه "1887 – 1840": يعدُّ غييوميه رسام الصحراء في كافة تفاصيلها. سافر إلى الجزائر إحدى عشر مرة مما سمح له بإنتاج رسومات أحادية اللون، يتخللها الضوء والظل والنور والحرارة والغبار. يمكن مقارنة أعماله بأعمال ليون بيللي "1827-1877"، ذلك الرسام الذي تفنن في رسم "موكب الحجيج إلى مكة المكرمة "1861".
منذ بداية عام 1870 انضم العديد من الفنانين الإيطاليين والألمان والانكليز والنمساويين والأمريكيين إلى الحركة الاستشراقية.

من بين هؤلاء نجد الاسباني ماريانو فورتوني "1838 - 1874" الذي دعي إلى المغرب لمرافقة الفيلق العسكري بقيادة الجنرال بريم. تلقى فورتوني الأوامر لرسم أحداث معركة تطوان "لوحة غير مكتملة". من جهة أخرى كان هذا الرسام يستضيف بمنزله المستشرق الفرنسي الشغوف بكل ما يتعلق بإسبانيا هنري رينيولت "1843-1871" الذي خلد خوان بريم ممتطيا حصانه. وعلى غرار زميليه جورج كليرين "1843 - 1919" وبنيامين كونستانت "1845-1902" اختص هنري رينيولت في رسم المشاهد القاسية في قصور الأغنياء "إعدامات دون محاكمة في ظل حكم ملوك غرناطة".

تحول الشرق في العديد من اللوحات إلى فضاء لكافة ألوان الوحشية فأضحى بذلك الاستشراق شبيها بمسرح للدراما. على صعيد آخر، شارك هنري رينيولت في تأليف انسجام جديد بين الألوان باستخدام اللون الأسود والأصفر الليموني تارة واللون الوردي والأصفر تارة أخرى واللون البني – الوردي حينا والأخضر المائل إلى الكرزي أحايين أخرى.

وعلى الرغم من أن لوحاته لم تتأثر كثيرا بأسلوب الشرق، إلا أن خلال تلك السنوات انبهر واحد من أهم الانطباعيين بالشرق ألا وهو أوغست رينوار "1841 – 1919". أما الرحالة الكبير فيليكس زايم "1821 – 1911" فكانت لوحاته متأثرة بالكثير من الأوان الزاهية المستوحاة من حياة الشرق.

الاستشراقات جميعا
أثر الشرق وجاذبيته بشكل أو بآخر في كافة الفنون إذ نجد ذلك جليا بوضوح في منجزات المهندسين المعماريين من أمثال شارل لويس بلزاك، باسكال كوست، أمبرواز بودري، شارل كورنو "1815 – 1904" بالإضافة إلى النحاتين أنطوان لويس باريي "1795 – 1875"، وشارل كورديي "1827 – 1905" في معرضه الخاص بـ "الإثنوغرافيا والأنثروبولوجيا"، وتيودور ريفيير في تونس "1857 – 1912"، مرورا بالأعمال الفنية الزخرفية لتيودور ديك "1823 – 1891" الذي اشتهر بأعماله الخزفية "أزرق ديك" وكذا إيميل غالي "1846 – 1904".

فهؤلاء جميعا استوحوا كافة أعمالهم من منشورات أوين جونز "1809 – 1874" سيما فيما يخص الجانب الجمالي التزييني كما تمّ تقديمها في مجموعة تصاميم الفن والصناعة – 1859 لكل من كولينو وآدالبير دو بومون.

هذا وقد سافر عدد لافت من المصورين إلى مصر ومن بينهم فردريك غوبيل – فيسكه وهوراس فرنيه الذين عملا سوية في سوريا وفلسطين. بعدهما وضمن بعثة أثرية وصل كل من مكسيم دي كامب وغوستاف فلوبير. في الكتاب المعنون بـ "مصر، النوبة وفلسطين وسوريا" الصادر في عام 1852 والذي تكفل بإخراجه المصور بلنكارت إيفار نجد العديد من الرسومات التي خلّفها بعض هؤلاء المذكورين آنفا.

أما أوغست سالزمان فلقد اهتم بتصوير المعالم الأثرية لمدينة القدس. ومهما يكن، فإنه من الحقيقة التاريخة القول بأن ما يقارب الأربعين مصورا قد زاروا الشرق قبل سنة 1880 "بيدفورد، الفيكونت دي بانفيل، فيليكس دو ماري بونفيس، جيمس روبرتسون، الخ"، بل ومنهم من أقام مدة من الزمن هناك فرسموا لوحات كان غرضها الأساسي البيع في مجال السياحة.

أما في مجال الموسيقى، فلقد شهدت الأوبرا ميلاد موسيقى الملحن شيروبيني "علي بابا والأربعون حراميا""1833" وكذا "الفتاة الإيطالية بالجزائر" من قبل روسيني و"عايدة" لفيردي، وكذا القصائد السيمفونية "الصحراء" لفيليسيان دافيد "1810-1870". أما كميل سان ساينس الموسيقي "1835 - 1921" فعرف عنه ميله الشديد وتعلقه بمدينة الجزائر العاصمة.

القرن العشرون
بدأت مواضيع الاستشراق منذ أوائل القرن العشرين تختفي تدريجيا، على الرغم من أن ذلك الطابع بقي جليا إلى حد ما في أسلوب بناء و إنجاز فيللا عبد اللطيف في الجزائر عام 1907 باعتبار أنها بُنيت ضمن السياسة الاستعمارية الفرنسية. هذا وقد أقام كل من هنري ماتيس "1869-1954" وبول كلي "1879-1940" بهذا الشرق الباهر غير أن هدفهما الفني لم يكن البحث عن أنماط غريبة بل كان من أجل إثراء تجاربهم الفنية الخاصة بهما. إننا نستطيع القول بأن ما يطبع الشرق لدى بول كلي هو سمة التجريدية.

هناك حدثان مهمان وضعا حدا للفن الاستعماري وللاستشراق عموما ألا وهما إحراز الجزائر سنة 1962 استقلالها وإغلاق فيللا عبد اللطيف. فالكثير من فناني الشرق يبدون في أعمالهم وكأنهم استمرار طبيعي لذلك الخط الاستشراقي العتيق؛ فمحمد راسم مثلا "1896-1975" قد أعاد ابتكار فن المنمنمات الشرقية كما استطاع حسين زياني "من مواليد 1953" استلهام تاريخ الجزائر واستخدامه في مختلف لوحاته الفنية.

المصدر: العرب أونلاين- ترجمة: جيلالي نجاري

قد يعجبك أيضا...

أضف هذا الخبر إلى موقعك:

إنسخ الكود في الأعلى ثم ألصقه على صفتحك أو مدونتك أو موقعك

التعليقات على الاستشراق.. رحلة في المغامرة البكر (1)

بكر هراس‏13 ‏مارس, ‏2011

دائما الاستشراق ثم الاستعمار ( سواء كان الاستعمار خارجي او داخلي ) ثم الثورة

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
47129

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري

خلال 30 أيام
خلال 7 أيام
اليوم
Most Popular TagsMost Popular Tags

الاستشراق

,

لوحات استشراقية

, فيفان دينون, لوحات القرن 19, لوحات استشراق, رسم استشراقي,

الرسام تيودور جيريكو المجنونة

,

نغمات فلم الشيماء

,

الرسام دومينيك فيفان دين

,

من لوحات الرحاله المستشرق الفرنسى ليون كونييه

,

صور استشراق

,

الإستشراق

,

رسمات بقلم الرصاص لفنانين مشهوريين

,

الاستشراق الفنى فى مصر

,

رحلات الاستشراق

,

لوحات الاستشراق

,

الفرق بين ادب الرحلة و الاستشراق

,

ترجمة قصيدة كارمن لتيوفيل غوتييه

,

لوحات دومينيك فيفان دينون

,

اصل جاك شيراك هل هو جزائري

,

كاريكاتير الاستشراق

,

لوحات الحمامات التركية استشراق

,

فن الاستشراق

,

لوحات جيروم الاستشراقية

,

لوحات الاستشراق في مصر

,

شركة مولتك الكويتية الالمانية للتنقيب عن البترول

,

لوحات ورسومات الاستشراقيين

,

هوراس فيرنييه

,

جيروم الرسام

,

وساىل الإستشراق

,

لوحه الحمله الفرنسيه علي مصر بقيادة بونابرت للفنان ليون كونييه

,

فنانين القرن التاسع عشر

,

الإستشراق والهندسة المعمارية

,

تقاليد الصحراء اينغر بتفاصيل

,

اوغست دومينيك انجرهل هو من

,

عبد اللطيف الحشيشة و دي لاكروا

,

نغمة اوبرا عايده

,

الاستشراق في الرسم الحديث

,

اثر الاستشراق في الفن

,

الملابس الشرقية في القرن التاسع عشر

,

الاستشراق في الفن المصري

,

الرسام ايميل هوراس

,

التيارات الفنية بأوربا في

,

العاب رحلة وقت المغامرة

,

رسوم بوسكال

,

الاستشراق والرسم

,

رحلة فين وجايك في وقت المغامرة

,

رحلة وقت المغامرة

,

الاستشراق رحلة في المغامرة البكر

,

صور الاستشراق

,