آخر الأخبارعلم وتقنية › في نقد أيديولوجيا مجتمع الشبكات الرقمية (1)

صورة الخبر: اقتصاد المعرفة يمتاز برأس مال ذهني قائم على صناعة الثقافة
اقتصاد المعرفة يمتاز برأس مال ذهني قائم على صناعة الثقافة

يعتبر عالم الاجتماع الأمريكي ما نويل كاستلس أحد أبرز المنظرين لمفهوم الشبكة ووسائط الاتصال الجديدة، وهو أمر له ما يبرره منطقيا بعد أن ندرك الدور الكبير والهام الذي بدأت تلعبه تقانة المعلومات في رسم معالم مجتمع الألفية الثالثة، فهي اليوم من دون شك تمتاز بتأثير متزايد على جميع عناصر منظومة المجتمع: التعليم، الخبرات، المعارف، الفنون، اللغة، المسكن، الملبس، الغذاء، الدواء، المعايير، الإنتاج، التوزيع، العلاقة مع الآخرين. بحيث إن جميع هذه العناصر مرتبط قاب قوسين أو أدنى مع تقانة المعلومات، إن لم تكن محركا رئيسيا للمجتمع والأفراد ككل، بعد أن استقرت في قلب المنظومات الثقافية،الاقتصادية والسياسية. ناهيك أنها في قلب التحولات السريعة والمفاجئة، ما يجعل من الصعوبة بمكان فك الارتباط بين الثقافة والتقانة.

غير أنه من اللافت للنظر أن بنية مجتمع تقانة المعلومات مجتمع غير مهيكل وغير مركزي، فالأقوى فيه هو الذي يجلب إليه فئات عريضة ويكون دائم الحضور ويتجه نحوه حجيج فضاء المعلومات بحثا عن مواقع تقام فيه معارض، متاحف، مؤسسات للبيع والشراء والحصول على الخبر... إذ ليس من حضور إلا للذين يملكون المعلومة ويتحكمون في صياغتها وإخراجها شكلا ومضمونا، فضلا عن القدرة الدائمة على التجديد السريع والاتسام بالدينامية والمهارة في استخدام الوسائل الحديثة للمعلومات والاتصالات. مما يجعل اقتصاد المعرفة يمتاز برأس مال ذهني قائم على صناعة الثقافة التي تخترق سيادة الدول وتقفز على الحدود، فالمعلومات تحلق فوق الحدود لأنها تتحلى بقوة فائقة للتطاير وإعادة الإنتاج، فهي غير نافذة كما هي حال السلع التقليدية التي تستنفذ باستهلاك موادها، بل العكس هو الصحيح، لأن موارد المعلومات تزداد كمياتها وتتسع بارتفاع معدلات استهلاكها.

وبناء عليه يمكن القول أننا أمام "مجتمع جديد"، قوامه :"رأسمالية معلوماتية" و" ثقافة افتراضية واقعية"، إذ تقوم هذه الفرضية على أن العولمة تؤثر في الرأسمالية بتزايد أهمية التدفق "المالي والمصرفي" في جميع مختلف أنحاء العالم، حيث تقوم تكنولوجيا المعلومات الجديدة بتحطيم العقبات والعراقيل الزمنية والمكانية مشجعة توسُّع الرأسمالية المالية إلى أبعد الحدود. بالإضافة إلى كونها تقوض العلاقات الاجتماعية الهرمية والتراتبية والتصنيفات الطبقية التقليدية، لأن ثقافة الوسائط المتعددة وثقافة الإنترنت والشبكات، بمثابة أبجدية جديدة في زمننا تشجع الإنسان على الذوبان وانصهاره في عالم الرقمنة، لا تفرض على أعضائها انتماء أو ظهورا بعينه على وجه الحصر، فضلا عن كون ذلك لا يخضع لتصنيف محدد بحيث تتم معرفة العالم في الشبكة انطلاقا من سيولة معلوماته ورغبات الفرد وليس من محددات أخرى.

وبإيجاز يصبح العالم من هذا المنظور فضاء متشابكا متمركزا كليا على الفرد، وبالتالي يمكن أن نقرأ خلف هذه الفرضية قراءة تخضع في تصورها إلى حتمية تقنية تتحكم بالعالم، فالمجتمع في علاقته مع وسائط الاتصال الجديدة لا يتم تشكيله وبناؤه وفق التأثيرات الوافدة عليه منها فحسب، بل إنه يتماهى معها كليا.

والحال أن كاستلس يدمج وفق هذه الرؤية كليا بين التكنولوجيا والمجتمع، لأن الاندغام بينهما في نظره وصل مداه في مجتمع تكنولوجيا المعلومات، إذ يقول : "إن التقنية هي المجتمع>>، في ثلاثية كتابه المهمة :"عصر المعلومات، الجزء الأول، مجتمع الشبكات 1998: 25"".

ومن ثم يجمع بين المجتمع والشبكات في ما أطلق عليه الفيلسوف الألماني هربرت ماركوزة، المجتمع ذو البعد الواحد ، أو إذا شئنا تعبير فلاسفة ما بعد الحداثة، أطلقنا عليه مجتمع " الرحل" الجدد الذي يجهز على جميع الاختلافات والتمايزات ويوحد أفراده في نظمهم ومعاييرهم وأذواقهم داخل نمط واحد.

ومن شأن هذا التحول في مجال التقنية احتضان العديد من المتغيرات، ليس أقلها ولادة " فضاء عمومي جديد" سمته الكونية تلعب فيه تكنولوجيا المعلومات والتواصل دورا رئيسيا يخرج الإنسان من حدود الجغرافيا واللون والمعتقد من جهة، ويوفر له معلومات ورؤى متنوعة مختلفة من جهة أخرى.
والحال أنه لن يغيب عنا ما كانت الصحافة عليه من دور هام في المجتمع الحداثي كوسيط الاتصال بامتياز في الفضاء العمومي الحديث، إلا أن مجتمع المعلومات حمل معه بعد تقني هائل بدأ يحتضن فضاء عالميا متصلا بالشبكات الرقمية، تضطلع فيه وسائط الاتصال المختلفة وبنوك المعطيات بصناعة الرأي العام والتدخل في صياغة الحدث وإثارة النقاشات العمومية وضبط ما يفكر فيه زواره ورواده.

وفي خضم هذا التحول لم يعد السياق الاجتماعي التقليدي يفي بحاجيات الفرد، بمعنى أن الفرد في علاقاته الأسرية ابتعد عن تمثل المعايير التقليدية التي حددت روابطه الاجتماعية طويلا. الأمر الذي يجعل الأفراد يحددون روابطهم وعلاقاتهم اليوم انطلاقا من دوافعهم الفردية ورغباتهم، بحيث إذا لم تستجب ارتباطاتهم أو علاقاتهم إلى تطلعاتهم، سرعان ما ينفضون أيديهم منها كانفضاضهم عن هذا الموقع ولجوءهم إلى آخر.

على ضوء ما سبق يمكن أن نحدد مع دانييل بيل عالم الاجتماع الأمريكي "1976" معالم مجتمع الإعلام والتواصل بمنظور ليبرالي بحت بخمسة مظاهر أساسية:

-الانتقال من نظام إنتاج المواد إلى اقتصاد الخدمات "خاصة في التعليم، الصحة، البحث العلمي، التدبير الإداري".

- تحول بنيات العمل من عمل يدوي وميكانيكي إلى تخصص تقني عالي المهارة وقائم على الخبرة واقتصاد المعرفة.

- تصاعد الدور المركزي للمعرفة النظرية في الإبداع الثقافي والنمو الاقتصادي.

- بروز تقنيات جديدة قائمة على العلوم الذهنية.

- وأخيرا المقدرة المتسعة في التحكم بالتطورات التقنية والاجتماعية.

غني عن التعريف أن السمات الخمسة تعتبر في نظر علماء الاجتماع أبرز ما يميز المجتمع ما بعد الصناعي، لكن الباحث الماركسي فريدريك جيمسن يعزي أسباب التحولات الجارية إلى ظهور الموجة الثالثة من تطور الرأسمالية بعد المرحلة التجارية والمرحلة الصناعية، ما دامت العولمة في نظره أبرز ما يميزها، وهي بهذا المعنى غير محلية نظرا لكونها متعددة الجنسيات وعابرة للبلدان. لكن ما يلفت النظر في طرحه:

-ضعف استقلالية الثقافة بعد ابتلاعها من قبل منطق السوق وتحولها إلى مجرد سلعة، بحيث من شأن إسقاط الحدود بين فضاء السوق وفضاء الثقافة، فقدان البوصلة النقدية التي عادة ما تميز هذه الأخيرة، الأمر الذي عجّل بظهور ما يسمى بالحروب الثقافية "cultural wars" في الفضاءات الاجتماعية.

أما الفيلسوف الكندي شارل تايلور يرى أن تقاسيم المشروع كما هو حاليا، حمل معه عدة سلبيات:

1-إنَّ طغيان النزعة الفردية إنْ سمحت بحرية أكبر وإشباع حاجيات الإنسان، يمكن في ذات الوقت أن تؤدي إلى الانعزالية والانكفاء على الذات بما يباعد بين الفرد والمجتمع وتجعل هذا الأخير جزرا منعزلة عن بعضها البعض.

2- ثانيا، إن غلبة العقلانية الأداتية بغاية النجاعة والفعالية والمنفعة أوصد باب البحث عن المعنى وبالتالي اختلت موازين التضامن، وبالتالي معنى الحياة، مما جعل حياة الناس رتيبة ومملة لا طعم لها ولا لون.

3- فقدان الفرد لحريته بعد أن تغلب منطق تصنيع الثقافة وآليات المراقبة المؤسساتية والإدارية والتقنية.

ومهما يكن من محدودية العامل الاقتصادي في الفكر الليبرالي أو الماركسي في أن يقدم تفسيرا جامعا وشاملا لأسباب هذا التحول في عصر العولمة، لا بد من الإشارة إلى قوة العامل الاجتماعي والرمزي من خلال رصد طبيعة تطور المجتمع المعاصر ذاته.

ولعل من أقطاب هذا التوجه عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، بحيث يرى أن مرد التحولات العميقة تكمن في أن منطق المجتمع الصناعي دفع في اتجاه تكوين مجتمعات بيروقراطية مهيكلة وخاضعة لأنظمة حسابية دقيقة وصارمة، تعتمد آليات العقلانية الأداتية في جميع مجالات الحياة الاجتماعية، بغاية النجاعة والفعالية. فالدولة ـ الأمة مثلا وجدت نفسها معنية بإعداد التراب الوطني وتجهيزه بالبنيات التحتية، كما توفير حاجيات الساكنة المختلفة بما يؤمن رفاه كل واحد منهم وقضاء حاجياتهم " سكن، صحة، تعليم، عمران، وقاية...". لكن مع ذلك، ثمة قصور في التفسير الذي تقدمه المدرسة الاجتماعية، لأن مجتمعاتنا المعاصرة تتجه في مسار يختلف عن ذلك الذي تصوره عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، بحيث يغلب عليها اليوم التمايز الشديد في القيم والمعتقدات وتنافرها. بل كثيرا ما يتطلع فيها الإنسان إلى إشباع فردي قبل أي شيء آخر، كما أننا أبعد اليوم من تمثل منطق العقلانية الصارمة في جميع مناحي الحياة... كما تكهن به وأشار.

وبغاية سد النقص في هذه النظريات، ظهرت نظرية الوسيط "Medium theory" من صلب مجتمع المعلومات كمحاولة إضافية لفهم ما يجري حقيقة في مجتمعات غلبت عليها " صناعة الثقافة" و" صناعة الوعي"، بعد أن عمدت إلى النظر في كيفية اشتغال وسائط الاتصال والتواصل في جميع قطاعات المجتمع، وكيف يؤثر ذلك في صياغة المضامين الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وبالتالي تداعياتها المجتمعية. غير أن هذه النظرة الانتقادية والتخوف المشروع من الذاكرة التقنية، لا يستقيم ولا يجد مدلوله الحقيقي إلا إذا فسحنا المجال إلى رؤية على وجه نقيض منها، ينفرد بها الباحث الأمريكي جوشوا ميْرويتز "J.Meyrowitz" أستاذ علم التواصل بجامعة هامبشير الجديدة، بحيث يدرج ثلاثة أمثلة إيجابية على خروج الذات من جلدها وتحررها النسبي عبر وسائط الاتصال بعامة والوسيط التلفزي بخاصة، لكي تُطل الذات على تجارب أخرى تهم المستويات التالية:

أ- السن، ب- النوع ، ت ـ التحولات الحاصلة في إدراك الطبقات الاجتماعية.

بمعنى أن التجربة الناجمة عن الصناعة السمعية البصرية بعامة، ومشاهدة التلفزيون بخاصة، تُمكن من رصد طبائع وسلوكات وتجارب وقيم أخرى تنتمي لنفس الفئات العمرية وإذا كان رجلا او امرأة والطبقية الاجتماعية أو غيرها. بالإضافة أن الاطلاع على هذه التجارب تضيف خاصية جديدة، نظرا لكونها غير مرتبطة بوضع جغرافي أو سياق فضائي محدد، فالشاشة الصغيرة تجانس بين مختلف التجارب بنزعها من سياقها الزماني والمكاني وجعلها مجردة، ما يتيح المقارنة بينها لتغدو مورد استلهام بالنسبة للجميع.

وبإيجاز شديد استطاع هذا الباحث أن يبين أن التلفزيون بمثابة وسيط جديد يسمح بمد الجسور بين شبكات من التجارب الإنسانية والاطلاع على أشكال حياة مختلفة "طبقيا، ونوعيا وعمريا"، كما أنه من شأن تعدد وسائط الاتصال الالكترونية وانتشارها توسيع دائرة التبادل بين عدة تجارب مختلفة، بما يساعد نسج روابط وعلاقات ومد جسور بين سكان جميع بقاع العالم.

لكن إذ أضفنا إلى هذه النظرية الإعلامية التي ترصد دور الوسائط في تشكيل الحياة الإنسانية المعاصرة، مقاربة تيار الدراسات الثقافية "Cultural Studies" ، سنجد أن دور وسائط الاتصال أكبر من أن نحشره في نقل ووصل التجارب ببعضها البعض فحسب، بحيث لعب تيار الدراسات الثقافية دورا كبيرا في تحليل علاقة الجماهير الشعبية بالوسائط الاتصالية، وكيف تسعى الشرائح الفقيرة والمهمشة والأقليات الثقافية إلى التنفيس من ضغط الثقافة السائدة عبر اختراع أشكال تعبيرية وشفهية تقاوم بها صعوبة الحياة اليومية وحِدّة الاستغلال والفقر والتهميش والحرمان الذي يعاني منه الكثيرون.

إذ يعتبر رواد هذا التيار " ريشارد هوغارت، رايموند ويليامس، إدوارد طومبسون، ستيوارت هال" أول من قدموا أطروحات نقدية صارمة إلى نظرية الثقافة الماركسية بغاية تطويرها، ما يجعل من العمال والفقراء والمهمشين شركاء حقيقيين في المجال الثقافي سواء عبر وسائط الاتصال الجماهيرية أو في علاقة معها.

ويمكن الرجوع إلى أبحاث دانييل دايان وإليهو كاتز في قضايا الإعلام والتواصل كي نرى الدور المشابه الذي كانت تلعبه الطقوس السحرية في المجتمعات البدائية، وما تقوم به صناعة البرامج المتلفزة في المجتمعات الحديثة، بحيث يتجمع حولها المشاهدون في أوضاع شبيهة بممارسة الطقوس البدائية.

ولعل الإشارة إلى ما يقع في نقل وقائع الحج أو حفل افتتاح الألعاب الأولمبية وكأس العالم أو جنازات شخصيات كبرى أو أحداث وطنية بعينها " أعياد وطنية أو دينية..." يراد لها أن تطبع أذهان المشاهدين...، بما يجمع بين ملايين المشاهدين حول الشاشة لإحياء نفس الطقوس بوسائل جديدة لكن لها سحر لا يقاوم.

والغاية من الدمج بين الأنثربولوجيا ووسائط التواصل، تحليل دور وسائط الاتصال الجماهيرية في مجتمع المعلومات. فإذا كانت الطقوس المرتبطة بالرموز الدينية والروحية لها أثر بالغ في صياغة عقل ووجدان الشعوب البدائية، يمكن أن نعتبر أن وسائط الاتصال المعاصرة قادرة على خلق أوضاع مماثلة في لا وعي أفراد المجتمعات الحداثية، بحيث يتحلق ملايين المشاهدين حول الشاشة في هذه المناسبات، لإعادة صياغة إدراكهم للواقع وتأكيد انتماءاتهم وروابطهم العضوية بطريقة اشهارية.

وهو ما يؤكد أن طقوس وسائط الاتصال أصبح لها نفس دور الطقوس البدائية، فإذا اختلفت الوسيلة يبقى الهدف هو تعزيز النظام السائد في المجتمع وتوطيد دعائم الرابطة العضوية بين عناصره.

والواقع ان من يفحص طبيعة البرامج المتلفزة الطبيعية أو المصطنعة، سيجد أنها تتميز بطابع جد خاص، بالإضافة إلى ما يحيط بها من إعداد مسبق يثير الفضول يتطلع الكثيرون إليها بفارغ الصبر. وبهذه الشروط يتم إحياء سلطة الطقوس عبر وسيط جديد كما كان يجري قديما، مع فرق يكمن في كون صياغة الذاكرة الإنسانية ستؤول إلى التقنية المندغمة بمصالح الرأسمال و"صناعة الثقافة".

ومهما يكن من أمر هذه التأويلات المتناقضة، بين من يشيد بدور الوسائط الجديدة ومن ينتقدها انتقادا شديدا، لا مناص من الاعتراف أننا نعيش عصر التقنية شئنا أم أبينا، بحيث يمكن للتطبيق التقني " أن يكون جيدا مثلما أن يكون سيئا>>، فهي ليست << شرا في ذاته ولا خيرا في ذاته".

ولعل أبحاث عالم الاجتماع والعمران وتقانة المعلومات مانويل كاستلس "1942-..." حول "عصر الإعلام" أو "مجتمع الشبكة" تعتبر إحدى أبرز المساهمات الفكرية التي تتميز بالدقة في تحليل مجتمع تكنولوجيا المعلومات بشهادة أبرز علماء الاجتماع وخبراء قطاع الإعلام والتواصل في العالم. لكنه من الصعب أن نتناول في هذا الإطار كل جهوده وأن نقف عليها بدقة، لاسيما أنها أثمرت على ثلاثية "عصر المعلومات" تفوق 1300صفحة تمت ترجمتها إلى أكثر من 15 لغة في العالم لم يحظ أهل الضاد بنصيب منها بعد.

ومن اللافت أن يقدم له عالم الاجتماع الفرنسي آلان تورين صاحب الكتاب الشهير " المجتمع ما بعد الصناعي" "1969" الذي درَّس معه علم الاجتماع في مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية "E.H.E.S.S" بباريس طوال عشر سنوات خلت، قبل أن يحط كاستلس عالم الاجتماع الأمريكي "من أصل إسباني" الرحال بجامعة بركلي "Berkely" الأمريكية الشهيرة.

أولى الدفوعات، يعتبر عالم الاجتماع الفرنسي آلان تورين أن أبحاث عالم الاجتماع مانويل كاستلس وتحليلاته جد قيمة وتضم ثروة من المراجع التي لا غنى عنها بالنسبة للمختص وغير المختص، حيث تندرج ضمن سلسلة الأبحاث التي تحاول رصد وتحليل ما يمر به "المجتمع ما بعد الصناعي" أو مجتمع " تكنولوجيا المعلومات". "انظر تقديم الطبعة الفرنسية 1998: 9"

ويضيف "إننا على أعتاب دخول نموذج مجتمع يمكن تعريفه كسابقيه، لكنه يمتاز عنها بالتكنولوجيا ونتائجها المباشرة في تنظيم العمل والمظاهر الهامة في الحياة الاجتماعية، ما يبرر بأثر رجعي استعمال تعبير "مجتمع ما بعد الصناعي"، نظرا لأن هذه العبارة على الرغم من سلبيتها، لها على الأقل شرف الإعلان عن نموذج مجتمع جديد، وبالتالي عن رهانات جديدة في السلطة والمجتمع" " تقديم الطبعة الفرنسية 1998: 11".

وفي عجالة يعتبر العالم الفرنسي أن الارتباط القديم بين التقنية والقيم الثقافية والسياسية في زوال، حيث لم يعد هناك من ارتباط وثيق بينهما، بل يلاحظ غلبة العقلية الأداتية ما يجعل النتائج الاجتماعية والثقافية مرتبطة باستعمالات تقنية محضة " 1998: 8". والحال أنه يمكن حصر عدة أفكار رئيسية في هذا المصدر القيم، يمكن إجمالها في خمسة نقاط أساسية:

• من بين أبرز الأفكار الواردة في الجزء الأول "692 صفحة" من هذه الموسوعة، الحديث عن مراحل التطور البشرية، بحيث إن تقاسيم نموذج التطور القائم على تكنولوجيا المعلومات " الموجه بأكمله إلى الرفع من الإنتاجية"، يأتي في أعقاب نموذج صناعي قام على أنقاض نموذج إقطاعي فلاحي سابق. لكنه في ميدان الربط بين نموذج التطور الصناعي السابق "سواء كان نموذج الإنتاج رأسماليا أو دولتيا" ونموذج التطور المعلوماتي الحالي، يفسح المجال لفهم ما يجري في النموذج الجديد من خلال التمييز الحاصل في الاقتصاد السياسي الكلاسيكي بين قوى الإنتاج والعلاقات الاجتماعية. أي من خلال الربط بين علم الاقتصاد وعلم الاجتماع.

والقصد أن تكنولوجيا المعلومات أخذت دور محرك الدينامية، بمعنى إن تكنولوجيا المعلومات تقمصت دور قوى الإنتاج في نموذج العصر الصناعي، بمعنى إن تكنولوجيا إنتاج المعرفة " اقتصاد المعرفة" أصبحت مصدرا أساسيا في الإنتاجية وهي من تقف خلف فائض القيمة والتراكم الرأسمالي.

والواقع إن ما يلاحظ في نموذج مجتمع المعلومات، قيام تكنولوجيا إنتاج المعرفة ومعالجة المعلومات والتواصل بمهام الإنتاجية وخلق الفائض في القيمة، إذ " ما يمتاز به هذا النموذج الجديد، هو أن فعل المعرفة في ذاتها هو المصدر الأساسي لخلق الثروة، بحيث إن معالجة المعلومات تهدف إلى تحسين تكنولوجيا معالجة المعلومات كمصدر للإنتاجية، ما يجعل من هذه العملية دائرة تفاعلية بين المعارف التي توجد في قاعدة التكنولوجيا، وتطبيقات هاته بغاية تحسين توليد المعرفة ومعالجة المعلومات". " كاستلس، الجزء الأول، 1998: 38-39".

وهو ما يفتح المجال في ظل عصر الشبكات طرح السؤال التالي: كيف يمكن لتقنيات أن تكون في ذات الوقت مفصولة عن نموذج إنتاج اقتصادي يستنفرها كلية، ومفتوحة في وجه استعمالات ثقافية متنوعة؟

ويجيب الباحث أن أغلب مجتمع المعلومات الحالية رأسمالية " أي لا يمكن أن نتصور آلية اشتغالها من دون هذا النظام"، فتكنولوجيا المعلومات والتواصل تعد المصدر الأساسي للإنتاجية وقاعدة الثورة الإعلامية في نفس الوقت.

وهو هنا يستعين بمنطق قانون ميلفين كرانزبرغ "Melvin Kranzberg" في أطروحته الشهيرة: "إن التقنية ليست جيدة أو سيئة في حد ذاتها. وبالرغم من أنها غير محايدة، فهي قوة عظيمة تنفذ إلى قلب الحياة والروح، لكن انتشارها في الفعل الاجتماعي الواعي هو مثل الطابع المعقد للتفاعل بين قوى تقنية رعناء أطلقت الإنسانية عنانها بذاتها، يخضع للتحليل وليس للقدر". " كاستلس 1998، الجزء الأول: ص: 91".

وبالتالي ثمّة حركة دائرية بين المعرفة والاقتصاد من خلال تكنولوجيا المعلومات، فالمعرفة تولد الثروة والثروة بدورها تساعد على تطوير تلك المعرفة من أجل ثروة جديدة، وهلم جرا. وبالتالي لم تعد التقنية شكلية أو حبيسة عالم القيم والمثل والسلوك، بل تسللت إلى جميع منافذ الحياة وأنشطتها، ما يجعل منها حتمية في عصرنا.فتقنية العصر أصبحت عصر التقنية.

والحال أن هذا المجلد الضخم يبين أن تكنولوجيا المعلومات تجمع بين صفة المؤشر الجيد للمجتمع المعاصر من جهة، وكأداة إنتاجية عامة وقطاعية " ما يؤكد الاهتمام بإنتاج القيمة عند الباحث"، علاوة على التنافسية والعولمة " كامتداد للمنافسة الدولية" من جهة أخرى. وبالتالي ما أهَّلها أن تعيد تركيب الرأسمالية من جديد.

• قوام هذه النظرة الوقوف على مغزى حركة انطلقت بالفعل في السبعينات مهدت إلى مرحلة جديدة، حيث: " إن النظام التقني الذي انغمسنا فيه جسدا وروحا في سنوات التسعينات، تشكل منذ عشرين سنة، خاصة بموازاة ظهور وانتشار الهندسة الوراثية"" كاستلس، 1998. الجزء الأول: 71-72". فالمعطيات التي يدفع بها لتبرير ظهور اقتصاد المعرفة وتكنولوجيا المعلومات في وسط التسعينات، يرى أنها وراء تشكيل نفس جديد في الرأسمالية وانطلاق موجة جديدة داخلها. إذ يقول: << حدثت إمكانية اندماج الأسواق المالية العالمية منذ بداية الثمانينات بفضل تكنولوجيا المعلومات الجديدة، ما كان له عظيم الأثر في الفصل بين تدفق الرأسمال والاقتصاديات الوطنية>> " كاستلس، 1998، الجزء الأول: 113"، وهو ما أتاح انتقالها وتجوالها في لمح البصر في جميع أرجاء المعمورة.

ولا يتورع كاستلس في هذا الإطار عن تقديم جملة من البيانات الإحصائية والأرقام " انطلاقا من دراسة قامت بها مجلة "Business week" تثبت توجه العديد من المقاولات والشركات إلى الاشتغال في نظام شبكي، ساعد في قيامه الثورة الكبرى التي حدثت في مجال التقنية، أهمها وأبرزها التقاء ثلاثة توجهات شكلت قفزة نوعية في الربط الإلكتروني والاتصال " كاستلس، الجزء الأول 1998: 206". من أبرزها:
-رقمنة شبكات الاتصال السلكية واللاسلكية.

-تطور طريقة الإرسال عبر الموجة العريضة والتحسن المذهل في وظيفة الحواسيب المرتبطة بالشبكة.

أما على مستوى التوجه الثالث فيقوم على رصده لطبيعة التحولات في مجال الشغل والعمل في التسعينات، حيث يلفت نظر قراءه إلى أنه : "ليس ثمة علاقة بنيوية نسقية بين انتشار تكنولوجيا المعلومات وتطور مستوى العمل في الاقتصاد بعامة "...". فالنتيجة الخصوصية الناجمة عن التفاعل بين تكنولوجيا المعلومات والشغل تخضع بشكل واسع إلى عوامل ماكرواقتصادية واستراتيجيات اقتصادية وسياقات اجتما- سياسية". "كاستلس، 1998، الجزء الأول: 305". لكن المهم إن هذه الثورة التقنية في مجال تكنولوجيا المعلومات أسفرت عن شبكة ربط كونية في معالجة المعلومات وتخزينها وتطوير المبادلات التواصلية، ما فرض على دوائر القرار المهيمنة الاهتمام بالطرق الإلكترونية السيارة.

• يرى كاستلس أن مجتمع الإعلام ـ التواصل كناية عن مقدم عصر جديد في تطور البشرية يطلق عليه "عصر المعلومات"، يميزه " تحقيق نهائي للإمكانيات الإنتاجية الثاوية في الاقتصاد الصناعي التي وصلت مرحلة النضج، بعد أن انتظمت هذه الأخيرة حول نموذج " باراديغم" تقني مؤسس على تكنولوجيا المعلومات". " كاستلس، الجزء الأول، 1998: 120". مما يطرح السؤال عن مدى مصداقية القول أن إمكانية التطور تسير في اتجاه وحيد ونهائي؟ والحال أن هذه النظرة سقطت في نظر منتقديه في حبال الحتمية التي لا تترك للاحتمالية موقع قدم.

لكن ما يحسب لمانويل كاستلس أنه يهتم بالتواصل وتدفق المعلومات وأثرها في تشكيل الوجدان والعقل الإنساني، بحيث يحصر جهوده في الفصل الخامس حول" الثقافة الافتراضية الواقعية" " la culture de la virtualité réelle" للبحث في دور وسائط الاتصال المتعددة في خلق حياة لا هي بالواقعية ولا هي بالخيالية، أو هي كلاهما معا، بحيث يفتح المجال لدراسة أصيلة تعالج آثار العوالم الافتراضية أو الهرائية على الوعي الإنساني. بمعنى أن الأمر يتعلق بمستوى ثالث لم يسبق للوعي الإنساني أن وصله من ذي قبل، فثنائية الواقع والخيال يُضاف إليها مستوى ثالث معلق بينهما يطلق عليه "الواقع الافتراضي".

ومن ثم يؤكد من جديد أنه مع وسائط الاتصال المتعددة<< ثمة محيط رمزي يجعل من الافتراضية واقعية >> جديدة لنا " كاستلس، 1998: 420"، بحيث << إن نظام التواصل الجديد يحول مستويات المكان والزمان الأساسية في التجربة الإنسانية جذريا، فالأمكنة تفقد جوهرها ودلالتها الثقافية والتاريخية والجغرافية كي تدمج في شبكات وظيفية تنتج فضاء تدفق " تنتظم فيه علاقات السلطة والوظائف الاجتماعية" يحل محل فضاء الأمكنة>> التقليدية " كاستلس، 1998: 424".

والواقع أن كاستلس يجد نفسه على مقربة من جل الباحثين والفلاسفة الذين يضعون وسائط الاتصال في قلب التحولات الاجتماعية وأقرب من فلاسفة ما بعد الحداثة على الرغم من أنه يحاول جاهدا نقدهم.

• لا يغيب عن أحد وجود انتقادات عنيفة وجهت إلى كاستلس، نختار من أبرزها ما أثاره الباحث البريطاني نيكولا غارنهام "Nicholas Garnham" مدير مركز الدراسات الإعلامية والتواصلية في جامعة وينسمستر "Winsteminster" في المجلة الفرنسية "Réseaux"، "العدد رقم 101، 2000: 53-93" من ملاحظات: أبرزها أن كاستلس يتعمد إغفال دور المنافسة في خلق تراكم رأسمالي أدى إلى الموجة الثالثة في الرأسمالية، ما يوحي بأن صاحبنا يضخم من دور الشبكات ويجازف بمنح القطاع المالي استقلالية عن سائر القطاعات الأخرى " كما لو كان هذا القطاع يشتغل بدون علاقة مع عمليات الإنتاج والاستهلاك". فالقول بأن <<الرأسمالية لم يعد لها وجه>>، يفهم منه أنه لم يعد هناك مبرر لصراع الطبقات، إن لم يُغيب ذلك تدخل دور الفاعلين في مجتمعاتهم قاطبة.

والحال إن نيكولا غرنهام الباحث في مجال الاتصال والتواصل يعتبر هذه الأطروحة نتيجة حتمية لثقافة المقاولة التي تعتمد الشبكة، حيث يصبح الرأسمال بدون رائحة وبدون وجه ويتحرك بدون حدود، ما يصعب معه مساءلة أصحابه، فهم غالبا ما يتقمصون أقنعة وأرقاما حتى لا نتعرف عليهم. وبالتالي إن هذا المسار يلغي الصراع الطبقي " أي صراع بين العمال وأصحاب الرأسمال"، فالحجة الأولى المقدمة في هذا الباب ان الشبكات المالية العالمية خلقت رأسمالية << بدون وجه>>، ومن ثم لم يعد هناك رأسماليون، فالأموال متنقلة غير مستقرة من أيدي إلى أيدي أخرى، غير مستقرة لا في المكان ولا في الزمان.

لكن المشكلة في هذا الطرح أنه يتجاهل ولا يثير أي سؤال حول [طبيعة] التدخل الإنساني الخفي" من هم أناسه وما هي دوافعهم" الذي يحركها شمالا أو جنوبا شرقا أو غربا، حيث نجد أنفسنا نسأل عن كيفية تحقيق كل ذلك في أفعال إنسانية فردية؟ لذلك إن نظريته لا تقدم إجابة على ذلك، بينما تظل نظرية الصراع سواء في أشكالها الماركسية "marxistes" أو الفبيرية "weberienne" تقترح نظرية تفسر الصراع الدائر حول المصالح "…" [في النشاط الإنساني]. لكن كاستلس ربما وجد نفسه مضطرا "..." كي لا يأخذ بعين الاعتبار علاقات التنافس المرتبطة بالملكية كمحرك أساسي، ما دام في نظره أن العامل التقني هو المحدد الأساسي الذي لاغنى عنه في تفسير>> تحولات المجتمع الجديد.

• مؤدى هذه العملية في النهاية تغليب الاقتصادي على التقني، لكن يبقى أن مواصفات مجتمع تكنولوجيا المعلومات لم تنته ولم تكتمل بعد. ما يجعل من الصعوبة بمكان رصد ملامح هذا المجتمع الوليد كليا والوقوف عند مطبّاته وزلاته. لذلك يحسن في نظري الكلام عن مجتمع تلعب فيه صناعة الثقافة والتواصل والإعلام دورا بارزا، بحيث نرى سمات وأعراض مجتمع المعلومات تتشكل من خلال تقاطع هذه المجالات في جدلية معقدة، قوامها أن العصر الذي ولجناه ينطوي على ما يعتبره الباحثان جون لا كروا وغايتن ترومبلاي إرهاصات " مجتمع معلومات" قائم على:

-إدماج الأنشطة الثقافية والتواصلية في الفضاء الصناعي والتجاري.

-إعادة تعريف معايير الإنتاج على إثر هذا الاندماج.

- توسع خصائص القطاع الثقافي كي يشمل مجموع قطاعات الإنتاج الاقتصادي.

مفهوم التدفق في مجتمع الشبكة

ليس ثمة شك أن هذه النظريات والأبحاث المختلفة جميعا تساعد على فهم خاصيات التعقيد والتركيب التي تطبعان مجتمع تكنولوجيا المعلومات الذي أصبح مجتمع حركية، فما يطبع عصر التقنية حركية الأفراد والجماعات ورؤوس الأموال، سواء كانت بغرض البحث عن الربح والاستثمار أو بغرض الالتحاق بالمجتمعات الصناعية الغنية والهروب من فقر المجتمعات المتخلفة من جهة، أو بفعل الحروب والمجاعة واضطهاد الأقليات والعنف والترحيل القسري من جهة أخرى.

وهذا كله ما يمكن حصره إجمالا في مبدأ الحركية، سواء كانت حركية واقعية أو حركية افتراضية عن طريق السفر والترحال عبر وسائط الاتصال والشبكة العنكبوتية والقنوات الفضائية..الخ. ما يدفع إلى انصهار والتقاء وتزاوج ثقافات عديدة بين شعوب مختلفة في بقع جغرافية محددة.

مؤدى هذه الحركية ظهور " رُحَّل جدد" يقيمون علاقة جديدة بالفضاء، لا يحفلون بثقافة ثابتة بقدر ما يضبطون إيقاعها على إيقاع إبحارهم وترحالاتهم وسفرياتهم المتوالية والمتعددة. كما أن مفهوم "الرُحَّل الجدد" لا يمكن حصره في زاوية الهجرة والمهاجرين بغرض العمل فحسب، بل يمتد كي يسع الجميع، طلابا وأساتذة وسياح وعمال موسميون ولاجئون وتجار ورجال الفن وسينمائيون وملايين من عابري السبيل أو من مستعملي الحواسيب والأنظمة الرقمية... أي أنها ستشمل كل من يعايش تجربة السفر والرحلة واقعيا أو افتراضيا...الخ.

بالإضافة إلى كون هذه الحركية بشقيها الواقعي أو الافتراضي تسمح بالاطلاع على أنماط عيش وطرق عمل وأنماط تفكير مختلفة، على نحو لا يصبح الفعل السياسي فيها حبيس حدود وطنية، بل يتم النظر إليه من خلال زاوية عالمية. فالكل مدعو للمشاركة في نقاش حر عبر مختلف وسائط الاتصال، ما يسم النقاش بالعلنية ـ نقيض السرية ـ والشفافية ـ نقيض التعميةـ.

بيد أن ما يميز وسائط الاتصال الحديثة سمة تجمع بينها جميعا، حيث يمكن حصرها في مفهوم "التدفق" "Flux" الذي يتضمن في معانيه دلالات متعددة كالتنقل والسفر والحركة سواء بالنسبة لأشياء مادية أو افتراضية، والمفهوم يمكن أن يحتوي على خمسة مظاهر، الأربعة الأولى منها فضائية، بينما الأخيرة منها زمنية:

1-المظهر الأول ينحصر في علاقة التدفق بالفضاء، حيث يضمن التحرك من نقطة إلى نقطة ومن موقع إلى آخر.

2- المظهر الثاني يتعلق بالمسافة التي يقطعها التدفق في الفضاء.

3- المظهر الثالث يتعلق بقطعه لهذه المسافات بطريقة سريعة متتابعة وفورية...

4- المظهر الرابع يتعلق بالكمية المتبادلة من المعلومات على نحو يخلق تراكما وترتيبا بينها، بحيث من الطبيعي أن نتكلم عن ظواهر أصبحت من صميم حياتنا اليومية، كأن نقول "تدفق المعلومات"، " تدفق الاستثمارات"، " تدفق المهاجرين"، " تدفق البضائع"... للدلالة على مسار تقطعه أشياء واقعية أو افتراضية، ما يجعل من مفهوم التدفق مرتبطا بالمجتمع الشبكي وهذا الأخير مرتبط به.

5- المظهر الأخير يتجسد في المتابعة والاستمرارية، فالتدفق بهذا المعنى ليس له مركز ولا أطراف ما دام في حركة متوالية ينساب بدون انقطاع ودون أن يعترض طريقه عائق ما. الأمر الذي يجعل من التدفق شيئا معلقا بين الحضور والغياب أو هما معا، والانسياب هنا يطبعه عامل السرعة والتلقائية والفورية.

ولعل مانويل كاستلس "Manuel Castells" أول من بلور التعريف الوحيد الموجود لمفهوم التدفق كخاصيّة أساسية في مجتمع المعلومات الحديث، حيث يقول:<< أقصد بالتدفق سلسلة دالة، متكررة ومبرمجة عبر المبادلات والتفاعلات بين نقاط جغرافية متباعدة يحتلها فاعلون اجتماعيون في البنيات الاقتصادية والسياسية والرمزية في المجتمع>>.

وهذا التعريف بوضوحه البالغ يركز على ثلاثة مظاهر أساسية، الأول منها يتعلق بالرؤية الفضائية للتدفق، أي بوصفه ناقلا أو حاملا لمعلومات أو بضائع ذات دلالة تجارية، اقتصادية، رمزية.... فيما يتعلق الثاني بالطابع التوزيعي والعلاقاتي للتدفق، لأن مضامينه ـ سلعا كانت أو أفكارا ـ ينتهي بها المطاف في محطات معينة وركائز وحاويات تستلِمها وتستقبلها مُحولة إياها إلى غايات عملية. ومن ثم فإن التدفق والشبكة في علاقة انصهارية، لأن التدفق يعني مجمل الطاقة الدائرية التي تضع لها الشبكات أشكالا ومعايير.

ويركز كاستلس في الأخير على عنصر التنظيم كمظهر ثالث، لأنه في نظره ما يميز في نظره التدفق، بخاصة عندما عرَّفه بأنه << سلسلة دالة، متكررة ومبرمجة>>، فهو بنية تنظيمية لها دلالات ومبادئ تقوم عليها برمجتها الخاضعة لقواعد وظيفية يتحكم بها منظمو هذا التدفق.

والحال أن هذه المقاربة تخضع لأفق اقتصادي واجتماعي، لأن كاستلس يقيم شبها بين التدفق والأشياء الاجتماعية التجريبية. فالتدفق أداة رئيسية في الإنتاج الإعلامي، وهو ما يفسر إلى حد كبير تركيزه الشديد على الصيغة الفضائية للتدفق واهتمامه بشرح وظيفته الملموسة من خلال ربطها بالبنيات الاجتماعية ككل. إذ لا يخفى في هذا الباب تأثره بالمدرسة المادية.

والحال إن مجتمع الشبكة والتدفق يتيح للفرد إمكانيات غير محدودة لمد الجسور وتطوير نسيج الروابط ، بحيث لا تتحدد تجربة الفرد من موقع ثابت أو عبر انتقاله من موقع إلى موقع في رقعة الشطرنج الاجتماعية فحسب، بل من المسار الذي يقطعه ويرتاده وقد أصبح مفتوحا وأكثر حرية.

إذ من شأن وسائط الاتصال تشجيع التواصل بين الأفراد من جهة، وتوفير كمية هائلة من المعلومات الحرة المتبادلة والمختلفة من جهة أخرى، ما يجعل النظر إلى أي ظاهرة طبيعية أو اجتماعية يتم من خلال رؤية متعددة، لا تحكمها رؤية واحدة، بل من شأن هذا التدفق الهائل أن يسد المنافذ أمام قراءة وحيدة أو أحادية لها.

ومن ثم يمكن القول أن مجتمعا بهذه المواصفات، نقيض المجتمعات المنغلقة الذي تتحكم بها رؤية أحادية الجانب وتسود فيه تراتبية صلدة وعتيقة، لأنه يراهن على التعددية والانفتاح والمرونة. أي أن ما يميز مجتمع الشبكات التدفق " ضد انسداد الأفق" والانسياب "ضد العطالة" والمرونة " ضد الصرامة" والمساواة "ضد التراتبية" والسيلان "عدم التوقف" بين سائر المعلومات المقدمة على عكس الوسائط التقليدية الهرمية من فوق إلى تحت أو من تحت إلى أعلى، بحيث غالبا ما يحيط بهذه الأخيرة نظام مغلق يستبد به الثبات ومقاومة التغيير والإصلاح، ناهيك عن حركة جد محدودة وضيقة إلى أبعد حد بفعل التحكم في النظم والمعايير وآليات النقل بطريقة صارمة.

ولنوضح، إن حرية السفر من مدينة إلى مدينة في بعض البلدان العربية ما زالت تخضع مثلا لقواعد تقنن هذه الحرية، علاوة أن نساءه لا يمكنهن السفر بمفردهن. مما يجعل هذا المجال خاضعا إلى نظام مغلق من الإجراءات والتدابير والتقييدات وطغيان الهواجس الأمنية. بمعنى أن مستعمل شبكة الطرق هاته، لا يمكنه التجول كما يريد وكما يحلو له...

وعلى العموم إن هذه السمة من خاصية جميع أنواع الشبكات الاجتماعية التقليدية المغلقة والتي تسود فيها تراتبيات خاضعة لنواة مركزية وتراتبية اجتماعية ولوائح صارمة، بيد ان منطق مجتمع المعلومات على النقيض منها، لأن أنظمته الاجتماعية والسياسية مفتوحة على بعضها البعض وغير هرمية، غالبا ما تطبعها المرونة لأنها مرتبطة بحرية ببعضها البعض كنسيج العنكبوت، حيث يمكن ولوج عوالمها الممكنة بحرية وليونة كبيرة. فهي نابضة لا تعرف التوقف والاستراحة أو تستكين لحقيقة مطلقة.

المصدر: العرب أونلاين-د.حسن المصدق

قد يعجبك أيضا...

أضف هذا الخبر إلى موقعك:

إنسخ الكود في الأعلى ثم ألصقه على صفتحك أو مدونتك أو موقعك

التعليقات على في نقد أيديولوجيا مجتمع الشبكات الرقمية (1)

كن أول شخص وأضف تعليق على هذا الخبر الآن!

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
21785

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري

خلال 30 أيام
خلال 7 أيام
اليوم
Most Popular TagsMost Popular Tags

مانويل كاستلز

,

نظرية مجتمع الشبكات

, مانويل كاستلز والشبكات الاجتماعية pdf, تلخيص كتاب مانويل كاستلز سلطة الاتصال, الإيديولوجيا الإعلامية, تلخيص نظرية الشباكات عند كاستالز,

دراسة كاستالز للمجتمع المعلوماتي

,

نظرية المجتمع الشبكي

,

الشبكات الاجتماعية في علم الاجتماع

,

مانويل كاستلس

,

المجتمع الشبكي

,

مانويل كاستلز سلطة الاتصال

,

الاتصالات وفق مانويل كاستلز

,

نقد لكتاب العلم والتقنية كايديولوجيا

,

العقل الأداتي والعقل التواصلي

,

مانويل كاستلز و الاعلام

,

نظرية مانويل كاستلز

,

msi windpad enjoy 7 كيفية تغيير نمط الكتابة لجهاز

,

عصر الاعلام مانويل كاستلز

,

الصناعات الالكترونية واقتصاد المعرفة

,

نظرية المعرفة ونقدها للرقمنة

,

Manuel Castells مانويل

,

ثلاثية مانويل كاستلز

,

الصورة والتلفزة غند مانويل كاستلز

,

ثقافة الافتراضي الحقيقي Castells

,

مانويل كاستلز و نظرية مجتمع الشبكة

,

نظرية مجتمع ما بعد الصناعة

,

اطروحة الشبكات الاجتماعية

,

كاستيلز عصر المعلومات

,

العلاقات الاجتماعية من منظور نظرية الشبكة العنكبوتية

,

تكنولوجيا المعلومات في البيئة العالمية مانويل كاستلز نظرية

,

ملخص مانويل كاستلز مجتمع الشبكة

,

غارنهام

,

مجتمع الشبكة

,

وسائط الاتصال

,

مجتمع الشبكاتمانويل كاست لز

,

تعريف ليبرالى

,