آخر الأخباراخبار مصر › مذكرات أحمد أبو الغيط: «شخصية مبارك» هددت مصالح مصر فى ملف المياه.. وكنت أبعده عن رؤساء دول الحوض

صورة الخبر: الوزير الخارجية الأسبق أحمد أبوالغيط
الوزير الخارجية الأسبق أحمد أبوالغيط

لأهمية الملف وارتباطه بالحياة والأمن القومى فى مصر، كان لا بد لوزير الخارجية الأسبق أحمد أبوالغيط، أن يُفرد لملف مياه النيل وتحديات مصر فيه، فصلاً كاملاً فى كتابه «شهادتى.. السياسة الخارجية المصرية 2004 - 2011» والصادر عن دار «نهضة مصر». عرض فيه الكثير من تفاصيل الصراع على مياه النهر بين دول حوض النيل من جانب، وبين مصر والسودان من جانب آخر، مما يوضح لك محاولات كان ينقصها التمويل الضخم والحماسة الحقيقية من جانب مصر، ويقضى عليها رغبة دول الحوض فى تحقيق رؤاهم حتى لو جاءت بابتزاز مصر وإمكانياتها. متطرقاً إلى فقدان هذا الملف وبلا سبب فنى، خبيراً ومفاوضاً بارعاً مثل وزير الرى الأسبق محمود أبوزيد.

جهود ضعيفة

يُحدثك أبوالغيط فى هذا الفصل عن الجهود المصرية لاحتواء تلك الأزمة بجميع الطرق، ومنها قرار مصر فى إطار اتفاقية «الكوميسا» استبدال كينيا بالهند وسيريلانكا فى استيراد الشاى لدعم علاقتها بتلك الدولة، بالإضافة إلى بناء 120 بئر مياه شرب لتزويد السكان فى كينيا بالمياه العذبة. ولكن هذا لم يكن كافياً للكينيين الذين باتوا يؤمنون أن مصر تأخذ مياههم ولا تعطيهم أى شىء مقابلها! وهو حديث تكرر فى غالبية دول حوض النيل الأخرى، بالإضافة إلى رفض حكومات تلك الدول سياسات البشير رئيس السودان، واتهامه بدعم الحركات الانفصالية فى بعضها.

نتوقف هنا لنقرأ جزءاً مما كتب أبوالغيط عن زيارته إلى أوغندا قائلاً: «كان موسيفنى يتحدث بالكثير من الرضا والاهتمام عن هذا التجمع الجديد الذى يسعى لإقامته فى شرق أفريقيا، والتعاون الإقليمى -السياسى والاقتصادى- لكل من كينيا/ أوغندا/ تنزانيا، ومعها رواندا وبوروندى. وأخذ يردد على مسامعى أن هذا التجمُّع سيكون له صوته المسموع فى شئون القارة. وبعودتى إلى القاهرة طلبت من القطاع الأفريقى بالخارجية أن يتابع بأكبر قدر من الاهتمام والتدقيق تطورات إقامة التجمع ومؤسساته وقدراته والقواعد المنظمة له وتأثيراته فى سياسات القارة الأفريقية ومدى تأثرنا به اقتصادياً فى إطار (الكوميسا)، وسياسياً فى علاقاتنا الثنائية بدوله».

يشير أبوالغيط إلى جزئية مهمة بعد ذلك، ألا وهى عدم ترحيب الدبلوماسيين المصريين -على اختلاف درجاتهم- بالعمل فى سفارات مصر فى دول شرق أفريقيا، لنقص إمكانيات تلك الدول، والصعوبات المعيشية فيها، رغم حاجة تلك المنطقة إلى كفاءات عالية فى السلك الدبلوماسى. أترك مذكرات وزير الخارجية الأسبق، وأتذكر حديثى مع رجل المخابرات والصناعة الراحل محمد غانم، الذى كان ذراع مصر فى تلك المنطقة عبر شركة «النصر» للتصدير والاستيراد، وكيف حكى الرجل لى يوم لقائى به أن مصر كانت ذات يد طُولى فى بلاد أفريقيا كلها، ورغم ضعف إمكانياتنا فى الاهتمام بتعليم أبناء القارة وتنميتهم والمشاركة فى كل قضاياهم حتى اختيار الرؤساء، دون أن يسأل أىٌّ من المسئولين عن هذا الملف وقتها، عن أى امتيازات أو تسهيلات يمكنه الحصول عليها فى تلك الدول الأفريقية.

تجدك مضطراً إلى الربط بين رجل كمحمد غانم باع كل شىء لأفريقيا واستورد منها كل ما يمكن أخذه، وبين فشل مصر فى تحقيق ذلك فى عهد حكومة أحمد نظيف، رغم ما يشير إليه أبوالغيط فى حديثه عن أن استيراد اللحوم من دول حوض النيل كان يمكنه حل الكثير من المشكلات معهم. وهو ما يُعبِّر عنه بالقول: «كانت مسائل استيراد مصر للحوم والمواشى من هذه الدول مسيطرة على المناقشات معهم.. كان الإثيوبى يعطى أولوية لهذا الأمر، وكان الكينيون يتحدثون عن الثروة الحيوانية المتاحة لديهم، ويرغبون فى تصديرها إلينا، أما تنزانيا فقد أخذ رئيسها يعرض مناطق شاسعة فى بلاده لكى نستخدمها لتنمية الثروة الحيوانية المطلوبة من جانبنا، وأننا يمكننا أن نقوم ببناء المجازر الخاصة بنا فى موانيهم وإقامة بعثات طبية بيطرية لنا فيها للتأكد من كل شىء. وعرضتُ الأمر على مجلس الوزراء المصرى واتُخذتْ قرارات للنظر فى العروض وكُلفتْ وزارات وأجهزة بالمتابعة، ومع ذلك يزعجنى أننا لم نحقق الكثير فى هذا المجال، إذ قاومت دوائر فى مصر هذه التوجهات للانفتاح على أفريقيا فى مجال استيراد اللحوم، وأخذت مافيا استيراد اللحوم بمصر تقاوم لمصالح تحكمها. وأدى هذا الفشل فى عدم تحقيق انفراجة مطلوبة فى العلاقات مع هذه الدول (إثيوبيا/ أوغندا/ كينيا/ تنزانيا/ جنوب السودان)».

يواصل أبوالغيط حكيه عن تطورات الموقف مع دول حوض النيل طوال السنوات السبع التى شغل فيها منصب وزير الخارجية، مؤكداً دفع مصر لتعزيز العلاقات مع تلك الدول، خصوصاً مبادرة التعاون الثلاثى بين وزراء خارجية «مصر/ السودان/ إثيوبيا»، لتحقيق التعاون فيما بينها دون أن يغيب عن تلك المحاولات موضوع مياه النيل -كما يقول- إلى الحد الذى لم تعترض فيه مصر على دخول القوات الإثيوبية الصومال، واكتفت بإبداء تفهمها لاحتياجات إثيوبيا إلى ردع الجماعات المسلحة التى تسيطر على الصومال وتهدد أمنها، مع شرح أهمية الخروج من الصومال للجانب الإثيوبى حفاظاً على مصالحه، ولكن كل هذا لم يكن كافياً لطمأنة إثيوبيا ونظام الحكم فيها، وهو ما يحكى عنه أبوالغيط قائلاً: «تعقَّد ملف مفاوضات النيل، وأبلغنى رئيس الوزراء الإثيوبى مرتين على الأقل، أن لديهم شكوى من تدخلات يرصدونها واتصالات لنا مع جماعات معارضة للحكم فى أديس أبابا، وأنهم يقدِّرون أننا نستهدف الضغط عليهم فى ملف النيل، وهو الأمر الذى لن يتحقق. ونصحنا أن نتوقف عن هذا الجهد لأنه يسىء إلى العلاقات. وكثيراً ما نقلتُ هذه المناقشات والاتهامات إلى اللواء عمر سليمان الذى كان ينفى بقوة أننا نسعى للإضرار بإثيوبيا بحال من الأحوال، ولكن المؤكد أن النفسية الإثيوبية والشكوك المسيطرة عليها دائماً تجاه مصر كان لها تأثيرها فى عدم تسهيل بناء علاقة جيدة بالشكل المرغوب فيه، رغم كل الجهود المصرية».
الصراع على مياه النيل.. حاضر له تاريخ

يأخذك أبوالغيط فى جولة تاريخية لشرح خلفيات الصراع على مياه النيل، وكيف أن بريطانيا التى احتلت مصر لسنوات طويلة، حاولت استغلال مسألة نهر النيل لمساومة مصر وتهديدها والضغط على الحكومات المصرية المتعاقبة، وكيف كانت مصر طوال القرن العشرين تواجه صعوبات فى علاقاتها بأطراف الحوض، كما سبق لحكومة السودان فى عام 1958، وقبل توقيع اتفاق 1959 بتوزيع الحصص بين مصر والسودان، أن قررت أنها غير ملزَمة باتفاق 1929 ولم تشارك فى توقيعه. وهو الموقف الذى لم تخرج عنه دول الحوض، شارحاً المبادرات التى تمّت لتحسين العلاقة مع دول الحوض، بداية بمشروع «الهيدروميت» لإجراء دراسات لمشروعات فى البحيرات الاستوائية عام 1964، مروراً بتجمع «الاندوجو» لعام 1983، الذى استهدف تنفيذ مشروعات للتنمية فى دول الحوض، ومشروع «التيكونيل» عام 1995، الذى تبلورت من خلاله فكرة التوصل إلى اتفاق يحكم التعاون بين دول الحوض، ووصولاً إلى مبادرة حوض النيل، التى تم طرحها من قِبل البنك الدولى بهدف دعم التعاون بين دول الحوض من خلال التوصل إلى اتفاق حول مبادئ استخدام مياه النهر وإطار مؤسسى للتعاون بين دول الحوض يتشكل من مجلس وزارى تعاونه لجنة استشارية فنية وسكرتارية دائمة مقرها «عنتيبى» فى أوغندا، ولكنه يوضح أن إصرار دول المنابع منذ استقلالها وحتى عام 1999، على عدم الدخول فى تعاون بموجب الاتفاقيات القائمة أعاق كل هذه المحاولات الرامية إلى ترسيخ مبدأ الاستفادة الجماعية، ودعا كل طرف إلى التمسك بمواقفه، لدرجة أن إثيوبيا قدّمت فى مؤتمر المياه التابع للأمم المتحدة عام 1977 فى «مارتاديل بلاتا» بالأرجنتين ورقة تؤكد حقها السيادى فى استخدام مياه نهر النيل دون قيود، كما كررت ذات الموقف عام 1997 فى جلسة الجمعية العامة لاعتماد اتفاقية قانون استخدام المجارى المائية الدولية فى الأغراض غير الملاحية. حتى كانت مبادرة حوض النيل عام 1999 التى مثّلت فرصة جديدة يمكن استغلالها لدعم العلاقة بين دول الحوض وتنفيذ مشروعات التنمية واستغلال الفاقد من مياه النهر، بما يسهم فى تحقيق مصالح هذه الدول، ولكن هذا لم يحدث، وهو ما يبرره أبوالغيط بالقول: «بمرور الوقت تحول التركيز إلى خلافات حول صياغة المواد ذات الطبيعة القانونية فى مشروع الاتفاق الإطارى، والتى تتعلق بإقرار الحقوق والاستخدامات الحالية والإخطار المسبق قبل تنفيذ المشروعات، حيث ترفض دول المنابع تضمين تلك الصياغة، بدعوى أن الاتفاقيات القائمة تعود إلى العهد الاستعمارى ولم تعد سارية. وهذا الكلام مردود عليه بأن جميع الاتفاقيات الدولية فى مجال الأنهار تقر احترام الاتفاقيات القائمة.. كانت مصر تصر على عدم تأثير الاتفاق الإطارى الجديد على الاتفاقيات القائمة، التى تحافظ على حقوق مصر وحصتها المقررة، بينما تتمسك دول المنابع بعدم الاعتراف بتلك الاتفاقيات».

بتعقُّد الموقف فى بداية عام 2005، جاء قرار تشكيل اللجنة العليا لمياه النيل، برئاسة رئيس مجلس الوزراء وعدد كبير من وزراء ومسئولى الحكومة المصرية، للمتابعة الدورية للموقف التفاوضى المصرى وتحديد الثوابت التى لا يجب على المفاوض المصرى الخروج عنها، والنقاط التى يمكن إبداء المرونة فيها، وتلك التى يجب التمسُّك بها، فضلاً عن بحث كيفية دعم المفاوض المصرى من خلال برامج ومشروعات تستهدف ربط دول الحوض بمصر، لحث تلك الدول على تفضيل خيار التعاون مع مصر، بدلاً من التصادم والخلاف معها. كانت وزارة الرى هى المسئولة عن تحديد سقف التفاوض والبدائل العملية المتاحة فى ضوء البيانات الفنية عن الموارد المائية المتوافرة. وكان هناك حسم فى التمسك بحصة مصر المائية البالغة 55٫5 مليار متر مكعب بموجب اتفاقية 1959، وكيف أنها حصة محدودة وثابتة فى ظل تزايُد السكان فى مصر. ونصيب الفرد الذى يقل عن 700 متر مكعب فى السنة، وهو أقل من حد الفقر المائى، فى ظل ارتفاع تكلفة محطات التحلية النووية، مع فجوة غذائية تقدر بحوالى 7 مليارات دولار فى السنة، وهو ما يعنى عدم قبول مصر أى اتفاقيات تقلل حصتها المائية، فى ظل الوفرة المائية التى تتمتع بها دول الحوض، مثل إثيوبيا على سبيل المثال، التى تمتلك 11 حوض نهر بمعدل 1023 مليار متر مكعب من المياه، ويسقط عليها سنوياً متوسط 923 مليار متر مكعب.
الدكتور محمود أبو زيد وزير الموارد المائية الأسبق

ينتقل أبوالغيط هنا إلى الحديث عن الدكتور محمود أبوزيد وزير الموارد المائية الأسبق، فيقول: «سافرت أنا والدكتور محمود أبوزيد فى فبراير 2006، فى جولة إلى كل من تنزانيا/ كينيا/ أوغندا/ بوروندى/ رواندا.. مع النية فى زيارة إثيوبيا فى مرحلة لاحقة. وكشفت هذه الجولة عن وضوح تأثير وزير الموارد المائية المصرى الذى كانت له اتصالات ومعرفة وثيقة بكل مسئولى هذه الدول، وبخبايا الملف المائى. كان محمود أبوزيد يتفاوض طوال خمسة أعوام للدفاع عن حقوق مصر التاريخية فى مياه النهر، إلا أنه وتحت الرفض الحازم لبقية أطراف الحوض فى القبول بالاعتراف بهذه الاتفاقيات التاريخية، وافق على استبدالها بمفهوم جديد كان البنك الدولى وخبراؤه قد طرحوه على اللجنة الفنية للمفاوضات، ألا وهو مفهوم الأمن المائى للجميع، أى أن أى اتفاق إطارى جديد يتم التوصل إليه فى سياق مفاوضات مبادرة نهر النيل، لن يؤثر سلباً على الأمن المائى لدول حوض النهر أو على الاستخدامات والحقوق الحالية والمستقبلية لدول الحوض، وحاولنا فى جولتنا المشتركة فى فبراير 2006 إقناع قيادات هذه الدول الخمس بقبول المطروح دولياً ومصرياً.. كما أكدنا للجميع نية مصر فى العمل المشترك معهم للمساعدة على مواجهة متطلبات التنمية فى بلدانهم. وكانت الأحاديث وردود الفعل إيجابية، ولكن دون نتائج».

تلخص الخلاف وقتها فى المادة التى تنظم علاقة الاتفاق الإطارى الجديد الذى يجرى التفاوض عليه مع الاتفاقات المائية السابقة، وحق وإجراءات الإخطار المسبق فى حال إقامة أى مشروعات على النهر. واستمر الأمر فى عامى 2007 - 2008، ثم تم الاتفاق على تبنى اجتماع أوغندا لفقرة الأمن المائى مع وجود تحفُّظ مصرى - سودانى بشأنها، ومع رفع الأمر إلى رؤساء دول وحكومات حوض النيل للبحث عن حل للخلاف. وكشفت الأحداث بعدها عن دور إثيوبيا القابض على الكثير من المسائل، وكيف أنها تستخدم الملف كله لتحقيق أهدافها فيه تجاه مصر والسودان، ولجنى مكاسب مادية مباشرة. وهو ما فرض على الجانب المصرى إعادة تقييم الموقف لحث إثيوبيا على تغيير مواقفها.

يعود أبوالغيط مرة أخرى إلى القيادة السياسية فى مصر، ويعبِّر عن رؤيته فى هذا الملف، وكيف كان يخشى أن الرئيس المصرى لن يستطيع السيطرة على تفاصيل فنية أو قانونية تتعلق بهذا الملف، بل يشير إلى مخاوفه من اجتماع رئيس الدولة السابق مع رؤساء تلك الدول فى غرف مغلقة دون مساعديه، مبرراً ذلك بالقول: «كانت شخصية مبارك وتكوينه يبعدانه عن الدخول فى تفاصيل معقدة، وكان يجب أن أحمى مواقفنا ولا أعرِّضها لخطر كبوة هنا أو هناك».

ويتوقف أبوالغيط ليروى قصة إقالة الدكتور محمود أبوزيد وزير الرى، قائلاً: «كنت أشارك فى مساء يوم 9 سبتمبر 2008 فى احتفالية الأزهر بالعام الهجرى الجديد. وكان الرئيس سيُلقى كلمة قصيرة أمام جمع كبير من رجال الحكومة والدين، وقابلتُ الدكتور محمود أبوزيد، الذى يجب أن أعترف أن لديه معرفة عميقة بالملف وخلفياته ودبلوماسية العمل فيه، وصعوباته مع قرنائه بأفريقيا. وتحدثنا سوياً حول ما يصلنا من سفاراتنا من تطورات فى المواقف وجهود لمعالجة الخلافات المحتدمة حتى حينه. وفجأة وفى صباح اليوم التالى أطلع على خبر استبدال وزير جديد للموارد المائية به، هو الدكتور محمد نصر الدين.. واستغربت هذا القرار، وسألت سكرتير الرئيس للمعلومات الذى أفاد بعدم علمه بخلفيات الموضوع أو أسبابه، واستفسرت من رئيس ديوان الرئيس، الذى قال إنها خلافات مع رئيس الحكومة وبعض الوزراء. وتحدثت أخيراً وبالكثير من الإحباط مع رئيس المخابرات العامة الذى أحاطنى بعدم علمه بالأمر وضيقه من هذا التصرُّف. وأخذت أتساءل كيف نقوم بتغيير المفاوض المصرى الرئيسى فى قضية مهمة وحيوية لنا بهذا الشكل، ونحن فى خضم معركة تفاوضية يعلم هو بكل خباياها وتفاصيلها؟ وأحسست وقتها أن هذا التصرف يعكس عدم فهم دقيق للأوضاع التفاوضية، كما أنه سيؤدى إلى إضعاف القدرة التفاوضية المصرية».
محمد نصر الدين علام

تصدُق رؤية أبوالغيط ويتطور الموقف، وتَعقِد دول الحوض اجتماعا استثنائياً فى كينشاسا، ويتلقى أبوالغيط اتصالاً من محمد نصر الدين علام من مقر الاجتماع يبلغه فيه أن دول المنابع السبع اتفقت على التوقيع على مشروع الاتفاق الإطارى منفردة، وانسحاب السودان من القاعة، مستفسراً عما يجب عليه فعله! ويضيف أبوالغيط: «طلبتُ منه مواصلة الاجتماع وتسجيل موقف مصر بهدوء، وتحفُّظها على توجه بقية دول المنابع».

يبرر أبوالغيط موقف نصر الدين بالقول إن الوزير كان يمتلك الإمكانيات الفنية، ولكنه كان يفتقر إلى الخبرة السياسية التى تمكنه من التعامل مع الشخصية الأفريقية، مشيراً إلى أنه مع تصاعُد الخلافات فى اجتماعات دول حوض النيل، توافدت تقارير السفراء المصريين لتؤكد عصبية الوفد المصرى ومحاولاته المستمرة تطويع مواقف دول المنابع، وكيف أن تصريحاته الإعلامية زادت من حجم الخلافات على مستوى وزراء الرى، وبدأت بعض دول الحوض تُفصح بشكل واضح عن نيتها رفض الرؤية المصرية، وهو ما يعلق عليه أبوالغيط بالقول: «من واقع متابعتى لتطورات المفاوضات فى الشهور الأخيرة لعام 2009، توصلت إلى بعض الخلاصات بأنه بات واضحاً أن مصر تواجه حالياً تكتلاً من سبع دول لها رؤيتها وتصميمها على المضى قدماً باتجاه التوقيع على مشروع الاتفاق الإطارى بصورته التى اتفقوا عليها دون موافقة مصر والسودان، ودون تضمين المادة الخاصة بالأمن المائى، وهى الأهم بالنسبة إلى مصر داخل نص الاتفاق الإطارى. وأضفتُ أن المطروح حالياً من جانب دول المنابع لا يمكن لمصر القبول به حتى ولو كان لا يمثل تهديداً مباشراً على المدى القصير، على حقوق واستخدامات مصر المائية، أخذاً فى الاعتبار أن الرأى العام المصرى لن يقبل بتقديم أى تنازلات فى هذا الشأن. وحذّرتُ من أن توقيع دول المنابع على الاتفاق الإطارى دون مصر والسودان، سيمثل تطوراً سلبياً للغاية، فربما تحاول دول المنابع التوصل فيما بينها إلى إعادة تقسيم حصص مياه النيل، وأن الدبلوماسية المصرية لديها من الأدوات ما يمكنها من التأثير على الدول والجهات المانحة، بما يعرقل تنفيذ أى مشروعات فى دول المنابع قد تضر بأمن مصر المائى، كما اقترحتُ بعض البدائل المتاحة، ومنها توقيع مذكرة تفاهم مشروعاتية تتفق فيها دول الحوض على حزمة مشروعات يتم تنفيذها على مدار زمنى طويل (10 - 25) عاماً بتمويل دولى لتحقيق التنمية الاقتصادية وتطوير موارد النهر».

أمريكا.. "محاولات خفية" للضغط على مصر

كان زيناوى يصر فى أحاديثه للمسئولين المصريين على ضرورة الفصل بين مسار العلاقات الثنائية ومسار المفاوضات حول الاتفاق الإطارى، وهو ما كان يعنى نية إثيوبيا المُضى فى توقيع الاتفاق الإطارى، رغم اعتراض مصر عليه. وكانت إثيوبيا تقدم أفكاراً جاءت بعض الخبراء الأمريكيين منذ عام 1964 تتضمن إمكانية تخزين مصر كميات ضخمة من المياه بالهضبة الإثيوبية عن طريق خزانات عملاقة لتفادى عمليات البَخْر التى تتعرض لها بحيرة السد داخل الحدود المصرية، وهو الطرح الذى كانت ترحب به إثيوبيا لتستطيع من خلال الخزانات إنتاج الكهرباء، ولكن كان هذا الطرح يعنى وضع مصر تحت سيطرتها وتأثيرها، وهو ما رفضته مصر، مؤكدة أن مخزونها من المياه لا بد أن يكون داخل أراضيها. فى نفس الوقت كانت التقارير القانونية تؤكد أنه فى حالة اضطرار مصر إلى قبول مشروع الاتفاقية الإطارية بصياغاتها التى ترفضها، فإنه يجب أن ينص صراحة على عدم المساس بالاتفاقيات التى تم توقيعها مسبقاً، وهو ما يقول عنه أبوالغيط: «مع اقتراب الاجتماع الوزارى فى شرم الشيخ (أبريل 2010)، أعددتُ مجموعة خطابات من رئيس الجمهورية لكى تُرسل إلى رؤساء دول المنابع تحثهم على تجاوز صعوبات الموقف، عن طريق الاتفاق على إنشاء مفوضية عليا للنيل، دون توقيع الاتفاق الإطارى الأكثر تعقيداً. واتصالاً بهذه الرسالة اقترح وزير الرى أن تقوم مصر بتقديم هدية سخية إلى دول المنابع قدرها 100 مليون دولار، دون الحصول على أى مقابل، فعارضتُ بشدة الاقتراح الذى كان سيفتح باباً إضافياً للابتزاز، وعلى مدى زمنى ممتد. وكانت ملامح هذا الابتزاز قد ظهرت فى مطالب من بوروندى وبعض دول الحوض الأخرى وصلت إلى مئات الملايين من الدولارات».

وجاءت إجابات غالبية دول الحوض، وبينها إثيوبيا، باستعدادها للتحرُّك فى اتجاه إقامة المفوضية، مع عدم التخلى عن الاتفاق الإطارى المقترح. ويحكى أبوالغيط عن حديث تم بينه وبين رئيس الوزراء الإثيوبى أخبره فيه بعلم إثيوبيا بقيام وزارة الخارجية المصرية بالاتصال بدول وأطراف كثيرة لمنع تمويل مشروعات الطاقة فى إثيوبيا، وهو ما يعلق عليه أبوالغيط بالقول: «قلت له إننا فعلاً قمنا وسنقوم بكل ما هو فى جعبتنا من اتصالات لحماية مصالحنا. وأن مصر تنطلق من الاعتراف بحق جميع الأطراف فى التنمية، ولم ولن تعارض أى مشروع لا يؤثر على مصالحها. من هنا فإن المهم هو أن نُحاط علماً، طبقاً لقواعد الإخطار المسبق عن النوايا والمشروعات المستقبلية. فإذا ما قامت إثيوبيا وغيرها بإخطارنا والتحدُّث معنا، وبما يتيح لنا دراسة آثار أى مشروع على أوضاعنا، فإننا سنتجاوب ولن نعوق أى شىء. أما إذا ما تم تجاهلنا مثلما تفعل إثيوبيا حالياً فى مساعيها لبناء السدود على مجارى النهر، فلا يسعنا إلا التحدُّث للقوى المانحة، ولنا اتصالات وثيقة وتأثير لديهم».

كانت مصر تتمسك بموقفها فى حقها فى الدفاع عن أمنها القومى، وترد بالدفوع القانونية وحقوقها التاريخية التى يؤكدها القانون الدولى، وتعقد وزارة الخارجية اجتماعاً لكل سفراء وممثلى الأطراف المانحة بالقاهرة لإحاطتهم بتطورات الموقف، واعتراض مصر على ما يتم بعيداً عنها. وتوجه رسالة إلى مدير البنك الدولى ووزراء خارجية ومسئولى الدول والجهات المانحة للتأكيد على الموقف المصرى والتحذير من التداعيات المحتملة، ومطالبة البنك والمانحين الدوليين بإقناع دول المنابع بضرورة الحفاظ على مبادرة الحوض وعدم إهدارها بهذا التوقيع. كما تم تسجيل موقف مصر لدى الأمم المتحدة عبر خطاب تفصيلى تم توجيهه إلى السكرتير العام.

ورغم ذلك تعلن أربع دول من دول حوض نهر النيل فى عنتيبى فى 14 مايو التوقيع على الاتفاق الإطارى، وهى: «أوغندا/ إثيوبيا/ تنزانيا/ رواندا». وهو ما يقول عنه أبوالغيط: «قدّرت أنها مسألة وقت وتحقق هذه الدول أهدافها فى توقيع ست دول على الاتفاق، وبذا يمكن لها أن تدّعى شرعية دخول الاتفاق حيز النفاذ عند قيام ست دول بالتصديق عليه، متجاهلة فى ذلك عدم توافر شرط التوافق بين الدول التسع فى إجراءات فتح الباب للتوقيع، ثم شرط توقيع جميع دول الحوض عليه كشروط مسبقة نص عليها الاتفاق الإطارى لدخول حيز النفاذ، فاقترحتُ على الرئيس أن تعلن مصر تعليق أو تجميد مشاركتها فى كل أنشطة المبادرة بهدف الاحتجاج لدى أطرافها، وكذلك الشركاء الدوليين، وطلب عقد اجتماع يضم دول الحوض والدول والجهات المانحة للبحث عن حل جماعى للموقف الراهن.. وأوضحتُ أن هذا الإعلان المقتَرح لا يصل إلى حد الانسحاب الكامل من المبادرة، كما لا يترك الساحة لدول المنابع تتصرف فى المبادرة كما تشاء. ولكن آثر الرئيس عدم الصدام والاستمرار فى محاولة التوصل إلى تفاهم بين كل الأطراف، وهو الأمر الذى رأيتُ، فى ضوء أحاديثى مع الكثير من مسئولى هذه الدول، استحالته. وحاولنا تعطيل بقية الدول عن التوقيع وفشلنا مع كينيا وبقيت كل من بوروندى والكونجو الديمقراطية. وحاولت كلتاهما الحصول من مصر على كل ما يمكنه ابتزازها به».

وحتى لا تخسر مصر علاقاتها الثنائية مع دول المنابع، كان الاتجاه هو الاستمرار فى المشروعات المصرية فى دول الحوض بشكل عادى، فيما عدا مشروعات حفر الآبار فى أوغندا وتنزانيا. مع تقوية العلاقات مع جنوب السودان، التى تأكد سيرها فى طريق الانفصال. وكان التوقيع ينقصه دولة لكى يصبح تأثيره حاسماً، فبذلت مصر كل جهودها لإقناع بوروندى والكونجو الديمقراطية بعدم التوقيع، وزيادة المساعدات التنموية إليهما، فوصلت إلى 50 مليون دولار لكل منهما سنوياً، ولمدة خمسة أعوام. ويتوقف أبوالغيط ليحكى واقعة حدثت وقت زيارة رئيس الكونجو الديمقراطية كابيلا إلى مصر، فى عام 2010 قائلاً: «كانت زيارة كابيلا مهمة للغاية. وأخرجنا الرئيس عن طريقه لكى يشعر الضيف الزائر بالاستقبال المصرى الدافئ. وفى سياق الحديث الثنائى بين الرئيسين، علم مبارك بولع كابيلا بالدراجات النارية، فقرر إهداءه إحداها من العهد الناصرى، وكانت دراجة بخارية قديمة لها سحرها لديه».

الخلاصة: لماذا فشلنا؟

ولكن لم يستمر الأمر رغم المحاولات التى قامت بها مصر وقامت بوروندى بتوقيع الاتفاقية فى أواخر فبراير 2011. وتقرأ تحليل أبوالغيط قائلاً: «كان تقديرى دائماً أن المساعدات المصرية، مهما كان حجمها وتأثيرها، وكذلك الرشاوى، لن تحقق مصالحنا بشكل كامل، وأن تأثيرها سيبقى لفترة زمنية محدّدة، ثم يعود الموقف إلى وضعه السابق. وأن البديل الحقيقى يكون فى إقامة مصالح مستمرة بين مصر وهذه المجتمعات، عبر التجارة لربط هذه الدول بمصالح تجارية واقتصادية تُحقِّق مزايا مباشرة على الأرض لشعوب هذه الدول وتحقق مصالحنا مع مكاسب نجنيها. كانت هذه الدول، وهى: «إثيوبيا/ تنزانيا/ كينيا/ أوغندا/ جنوب السودان»، تعرض لحومها ومواشيها أمام السوق المصرية والعربية.. وكنا -وما زلنا- تحت تأثير مصالح ضيقة فى بلداننا. وعرضوا علينا الأراضى الشاسعة لزراعة احتياجاتنا وتنمية الثروة الحيوانية بها والاستفادة بها فى أسواقنا.. ولم نُظهر سوى «حماس الكلام» دون حسم المواقف. وقام رجال أعمالنا بغزوات قصيرة الأجل لم تحقق المطلوب، بل كثيراً ما وعدوا وأخلفوا».

المصدر: elwatannews

قد يعجبك أيضا...

أضف هذا الخبر إلى موقعك:

إنسخ الكود في الأعلى ثم ألصقه على صفتحك أو مدونتك أو موقعك

التعليقات على مذكرات أحمد أبو الغيط: «شخصية مبارك» هددت مصالح مصر فى ملف المياه.. وكنت أبعده عن رؤساء دول الحوض

كن أول شخص وأضف تعليق على هذا الخبر الآن!

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
65538

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري

Most Popular TagsMost Popular Tags

مذكرات احمد ابو الغيط

,

احمد ابو الغيط

, كتاب احمد ابو الغيط, مذكرات احمد ابو الغيط pdf, تحميل كتاب شهادتي لأحمد ابو الغيط pdf, كتاب شهادتى احمد ابو الغيط pdf,

ابو الغيط

,

كتاب شهادتي احمد ابو الغيط

,

أحمد أبو الغيط

,

شهادتى احمد ابو الغيط

,

كتاب شهادتى احمد ابو الغيط

,

مزكرات احمد ابو الغيط

,

مذكرات ابوالغيط

,

مذكرات ابو الغيط

,

مذكرات أحمد أبو الغيط

,

احمد ابو الغيط وزير الخارجية المصري

,

تحميل كتاب شهادتى pdf

,

كتاب شهادتي احمد ابو الغيط pdf

,

news

,

شهادتي لاحمد ابو الغيط

,

شهادتي لاحمد ابو الغيط pdf

,

مذكرات أحمد أبوالغيط

,

كتاب مذكرة احمد ابو الغيط

,

خريطة شبكة سكك حديد مصر

,

مذكرات احمد ابوالغيط

,

كتاب شهادتى لاحمد ابو الغيط

,

شهادتي احمد ابو الغيط

,

احمد ابو الغيط شهادتى pdf

,

تحميل كتاب شهادتى احمد ابو الغيط pdf

,

أحمد ابو الغيط

,

مذكرات مبارك pdf

,

63162464a629 64563362a64262864464a629 64464463364a627633629 62764464562762664a629 62764464563563164a629 64164a 636648621 62764462a62d62f64a62762a 627644631627647646629 64164a 62d648636 62764464664a644

,

مزكرات ابو الغيط

,

شهادتى احمد ابو الغيط pdf

,

كتاب احمد ابو الغيط الجديد

,

تحميل كتاب احمد ابو الغيط pdf

,

الفصل الخامس من كتاب شهادتي لاحمد ابوالغيط

,

كتاب شهادتى للوزير احمد ابو الغيط

,

قيمة واردات مصر من اللحوم الاثيوبية

,

شخصيات تاريخية قدمت انجازات حفاظا علي مياه نهر النيل

,

مذكرات حلول شخصية السكرتير pdf

,

l vhj hf hpl

,

كتاب احمد ابو عمور العلاقات الجماعية

,

المكتبة العربية شهادتي لأحمد ابو الغيط

,

سلالتة الوزير احمد ابو الغيط

,

شهادتي حول التعديب pdf

,

علاقات مصر بدول حوض النيل فى عهد مبارك pdf

,

كتاب احمد ابو الغيط شهادتي pdf

,

نص كتابه مذكرات محطات مياة

,

pdf تحميل مذكرات حول ثورة

,