|

مقالاتمواضيع عامة › ابتلاءات إلهية لخير البشرية

ابتلاءات إلهية لخير البشرية

بقلم: أ. د. ناصر أحمد سنه

مع شيوع ظواهر ومظاهر العولمة، لا حديث لأهل المحافظة على البيئة والمناخ العالمي، وللإعلاميين والاقتصاديين في العالَم، إلاَّ عن الأعاصير والفيضانات، والزلازل والبراكين، والأوبئة الفتَّاكة التي تَجتاح بقاع المعمورة - شرقها وغربها - دونما استثناء، تسونامي وكاترينا، أعاصير وسيول وفيضانات، وزلازل وبراكين، إيبولا وإيدز، جنون البقر، وإنفلونزا الطيور، وحُمَّى قلاعية وغيرها.

لكن - ووَفْق الفلسفة والرؤية التي يتبنَّاها كثيرٌ من هؤلاء وأولئك "أنها كوارث وظواهر طبيعية، فالطبيعة غَدَرت وأحْدَثَت إعصارًا وسَيْلاً وفيضانًا، وزلزالاً وبُركانًا ووباءً؛ بسبب كذا وكذا من المسببات، والإنسان قادرٌ على التحكُّم فيها، ومواجهتها ومُغالبتها، بل وقهْرها...إلخ".

فهل هي حقًّا "كوارث طبيعية"؟ أم ابتلاءات إلهيَّة لخير البشرية؟!
لا مِراء في أنَّ العقول - على اختلاف توجُّهاتها - تَشرئبُّ دومًا إلى ما وراء الحقائق الجزئية، والأحداث الجارية إلى حقائق كُلية أزَليَّة، وعلى ذلك فإنَّ الإسلامَ الدين الحقُّ يُعطي الإجابات الشافية والحقائق الكلية الأزليَّة، التي تسدُّ نَهَمَ تلك العقول، فكلمة "الدين" تؤخَذ من "دانَه، يَدينه"، أو "دانَ له"، أو"دانَ به"، فإذا قلنا: "دانَه"؛ أي: ملكَه، وحَكَمه وساسَه، ودبره، وقهرَه، وقضَى في شأْنه وجازَاه، والدِّين في الاستعمال يدور على معنى الملك والتصرُّف، والتدبير والمحاسبة والمجازاة، كما هو الإيمان بذات إلهيَّةٍ خالقة، جديرة بالطاعة والعبادة.

إن الله - تعالى - الذي خلَق هذا الكون على هذا الإعجاز والتقدير والإحكام، لا يعجزه - سبحانه - حذف شيء منه، أو إضافة شيء إليه، أو إحداث زلزال هنا، أو بركان هناك، أو طوفان كاسح في بقعة، أو وباء شامل في بقاعٍ، إنها "طلاقة القدرة والتقدير"، ضمن إعجاز خلْق هذا الكون الهائل، والطبيعة - وما بها من مخلوقات وموجودات، وقوانين ونواميس - ليستْ خالقةً أو قادِرة، أو مُقدِّرة أو مُدبِّرة أو مُنشِئة، فلماذا الهروب من الاعتِراف بذلك؟ أهو خوف مِن تحمُّل تَبعات ومسؤوليَّات اليقين بالله - تعالى؟! وهل هذا اليقين - وما يتبعه من نهج سلوكيات وقِيَم، وشرائع وشعائر - فوق الطاقة البشرية؟ ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعليهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ [البقرة: 286]، أم هو خوف من التأمُّل في الهُوَّة التي كسبتْها أيدي الناس عندما ابتعدتْ عن منهاجه - تعالى؟ ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41].

إنها ابتلاءات إلهيَّة:
"كلُّ أنواع المصائب والمحن المختلفة التي تهدِّد الإنسان، أو تنزل به في هذه الحياة، ما هي إلا أسباب وعوامل تُنبهه لعبوديَّته، وتَصرف آماله وفكرَه إلى عَظَمة الله - تعالى - وباهر قُدرته، كي يفرَّ إليه - سبحانه - ويبسط أمامه ضَعفه وعبوديَّته، ويستجير به من كلِّ فتنة وبَلاء، وإذا استيقَظ الإنسان في حياته لهذه الحقيقة، وصبَغ بها سلوكه، فقد وصَل إلى الحدِّ الذي أمرَ الله عبادَه أن يقفوا عنده، وينتهوا إليه"؛ بتصرُّف من كلام د. محمد سعيد رمضان البوطي؛ "فقه السيرة"، ط 7، دار الفكر، 1398هـ، 1978م، ص 174.

وتحاصرنا تلك الأخبار والأحداث؛ حتى نشعرَ أننا جزءٌ منها، أو أنها تَكاد تُداهمنا في منازلنا، فنخشى على أنفسنا وأولادنا، وذَوِينا وأوطاننا؛ ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157]، ففي الكون المخلوق قُوًى وطاقات هائلة، وعواصف هوجاء، وزلازل مدمِّرة، وبراكين مُحرقة، وأوبئة مدمرة، وشُهب متتابعة، وأشعة كونيَّة، لا يعلمها ولا يُسيرها ولا يحفظنا منها إلاَّ الله - تعالى - فالأمْن منها لا يتمُّ التماسُه إلاَّ عنده - سبحانه - والاطمئنان منها لا يكون إلاَّ عن طريق الإيمان به - تعالى -: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]، والفرار منها لا يكون إلا بالفرار إليه - جل شأنه -: ﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾ [الذاريات: 50]، الذي بيده ملكوت كلِّ شيء، مدبِّر الأمر، قيُّوم السماوات والأرض.

إنها ابتلاء الصبر واليقين، والفوز والاهتداء والشكر، شكره - تعالى - على مُعافاته، ومِن ثَمَّ ابتلاء المسارعة لمدِّ يد العون للمنكوبين، في تكافُل وتعاون، وتعاضُدٍ وإخاء؛ حثَّتْ عليه قِيَمُ الإسلام وتعاليمه وشرائعه الإنسانية السمحة النبيلة؛ ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35]، فالمال - عبر الزكوات والصدقات، والحقوق والأوقاف - يُسهم في إعانة وتجديد حيوات أخرى - توادًّا وإيثارًا؛ ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [الحشر: 9]، فيقع التوافُق والتماسُك الاجتماعي والإنساني؛ ((مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعَى له سائر الأعضاء بالسهر والحُمَّى))؛ رواه البخاري، ومسلم من حديث النعمان بن بَشير - رضي الله عنه.

هي لخير البشريَّة:
تصويبًا للمسار، وتصالحًا مع الدين، فلا يختلف اثنان على ضرورة أخْذ البشرية بناصية العلم وأسبابه، ولكن أن يتحوَّل "العلم - العقل" إلى "وثنٍ" يُعبَد من دون الله - تعالى - "فأجهزتنا رصدتْ، وقياساتنا كشَفت، ودراساتنا أظهَرَت، ومختبراتنا أكَّدت، وتنبؤاتنا صدقَت"، فهل منعتْ كلُّ تلك التقنيات والقياسات، والدراسات والمختبرات والتنبؤات قدرَ الله - تعالى - وقدره؟ فلا يحدث شيء في كونه إلاَّ بقدره وتقديره!

لا ينبغي لعاقل أن يقع في فخِّ الزعْم بأنه: لا يؤمن إلا بما يُثبته العلم ويتماشى معه؛ لأن هذا "الجهل المتعالم" يستدعي إنكار كثيرٍ من الموجودات اليقينيَّة؛ بسبب عدم إمكان رؤيتها أو خضوعها لمقاييس العلم، التي مَهْمَا بلغتْ فهي محددة قاصرة، فخصائص عالَم الغيب تختلف عن خصائص عالَم الشهادة.

إذًا، هي وقفات للبشرية تحدِّد فيه خياراتها من القِيَم الخلقيَّة والسلوكية، والاجتماعية والاقتصادية، الحاكمة للحياة المعاصرة، ووقفة للإنسان ليحدِّد ويُجدِّد غاية وجوده، وحدود اختصاصاته، وعلاقته بخالق هذا الكون.

إن البشريَّة تعلم أنَّ أنماطًا مِن سلوكيَّاتها السلبية، وإنتاجياتها المتضخمة، واستهلاكها المفرط، وجَوْرها على البيئة، أفرزت مشكلات بيئية كبيرة ومناخية خطيرة، تُهدِّد مستقبل البشرية، ونراها تبذل جهدًا كبيرًا في التنبؤ بما سيؤول إليه هذا الوباء أو ذاك، وكيفيَّة انتقاله بين البشر ومضاعفاته، دون بذل جُهد فِعْلي تنفيذي مماثِل في معالجة ومنْع الأسباب الحقيقة، فلماذا لا يتم التصالُح والانسجام مع البيئة، والاعتدال والعدالة في الإنتاج والاستهلاك، ومنْع الممارسات الجنسيَّة الشاذة - والتي هي من أهمِّ أسباب مرض الإيدز؟ ولماذا يتمُّ التغاضي عن ذلك بدعوى الحريَّة الاقتصادية والشخصية؟ أم إنه الخضوع الأعمى للهوى؟ ﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عليهِ وَكِيلاً ﴾ [الفرقان: 43].

وهي إنذار "لإنسان العولمة الاقتصادية"؛ لإعادة التوافُق مع فطرة الله التي فطَر كونه عليها، فتظل الحيوانات والطيور آكلة العشب والحبوب كذلك، لا أن يحوِّلها إلى لواحمَ يُغَذيها على لحوم ودماء، وعظام وهرمونات غيرها؛ لهثًا وراء التربُّح الرأسمالي وتراكماته؛ مما أدَّى إلى جنون البقر، وإنفلونزا الطيور، والحُمَّى القلاعية، وغيرها، فهل ينتظر الطامَّة الكبرى التي لا تُبقي ولا تَذَر؟

ثم هي تمييز بين صنوف البشر، مثوبة للصالحين الذين يُلهمهم الله - تعالى - السداد عند كل مصيبة، وتأكيدًا لثقتهم في الحكمة العليا التي قد نَجهلها، فتصبح تلك الابتلاءات صفحة نقيَّة في حياتهم؛ ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله؛ حتى يَلقى الله - تعالى - وما عليه من خطيئة))؛ رواه مالك، والترمذي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه.

كما هي جزاء للطالحين؛ ﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عليهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ﴾ [آل عمران: 179].

وعلى عقلاء البشرية رَفْع أصواتهم، وتحصين مواقعهم الفاعلة، مستندين إلى هذه الجموع الغفيرة • شمالاً وجنوبًا، وشرقًا وغربًا - التي تَئِنُّ بالشكوى؛ جرَّاء صناعة الفقر، وعولَمة الجوع والمرض والتخلُّف، وشيوع تجارة السلاح وسباقات التسلُّح، وافتعال الحروب والأزمات؛ تكريسًا للمغانم، وتوزيعًا للمغارم.

وتبقى الأسئلة الفارقة: ألَم يأن للبشرية أن تحقِّق العبودية اختيارًا، كما تحقَّقت فيهم وفي الكون كله إجبارًا؟ وفرق كبير بين أن تُقدم البشرية على ربِّها بجناحَي الحب والشوق، تَملؤها دوافع من الإخلاص والطاعة، بدلاً من أن تُساق بسياط من الابتلاءات والمحن والعذابات.

ألَم يأن لها أن تخشع لربِّها، وتجْأر بالتضرُّع والخشوع لله - تعالى - فتزول عنها قساوة القلب؟ ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عليهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 16].

لقد آنَ لها أن تتواضَع لخالقها، "فالتاريخ يشهد أن نتيجة العبوديَّة والخضوع لله - تعالى - وحْده كانت عزَّة ومجدًا شامخًا، خضَع لها جبين الدنيا بأسْرها، ولقد كانت نتيجةُ الاستكبار والجبروت الزائفَيْن قبرًا من الضِّعة والذِّلة والهَوَان، وهكذا سُنة الله - تعالى - في كونه، كلما تلاقَت عبوديَّة خالصة لله - تعالى - مع استكبار وتألُّه زائفَيْن".

الكاتب: أ. د. ناصر أحمد سنه

التعليقات على ابتلاءات إلهية لخير البشرية

كن أول شخص وأضف تعليق على هذا المقال الآن!

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
61084

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري

المقالات الأكثر قراءة
مقالات جديدة
Most Popular Tags