عندما يكون الأب في خلفية الصورة

سرعة الاستسلام، والتهرب من المواجهة، وإسقاط الأخطاء على الآخرين، وعدم تحمل المسئولية، وتفاهة الاهتمامات، وعدم الاكتراث بالوقت، و.. و... كلها ملامح لشخصية فقدت الثقة بذاتها، حتى أصبح صاحبها نموذجا صارخا لما يعرف بأزمة الثقة، فلا يستطيع أصحابه ومعارفه أن يمتنعوا عن التعليق عليه والثرثرة عنه، ودائما ما يرفض أن يقف مع نفسه وقفة موضوعية يعترف من خلالها بأزمته، ولا يدري صاحب هذه الشخصية أنه يأخذ نفسه في طريق كارثي تكون عواقبه أشد قسوة عليه، خاصة إن كان ربّا لأسرة.

تؤكد الإحصاءات أن من 10 إلى 20 مليونا يُقدمون على الانتحار كل عام، ينجح منهم مليون في تحقيق هدفه، من هذا المليون 273 ألفا فاقدون الثقة في أنفسهم، وكان ذلك من أسباب انتحارهم، وأن من 5 إلى 16 في المائة من المرضى النفسيين يُقدمون على الانتحار، ويمثل فاقدو الثقة في أنفسهم منهم نسبة 36 بالمائة.

فما هي ملامح شخصية الأب حين يفقد الثقة في نفسه، وما النتائج المترتبة على ذلك، وكيف يخرج رب الأسرة من تلك الأزمة بكل انعكاساتها على أسرته؟

الثقة من الصغر..

يقول د. محمد المهدي رئيس قسم الطب النفسي – كلية طب دمياط - جامعة الأزهر؛ إن جذور أزمة الثقة بالذات عميقة تمتد إلى مرحلة الطفولة، فالطفل في السنة الثانية من عمره يكتسب قدرة عضلية تسمح له بالحركة، فتكون الرعاية الوالدية تجاه هذه الحركة رعاية سلبية، فينهَى الأب والأم الطفلَ عن كثرة الحركة، ويبالغان في توجيهاتهما للطفل بحجة الحفاظ عليه، وعلى الأشياء من حوله، ولأن حركة الطفل في هذه المرحلة تمثله هو شخصيّا فينتابه شعور بأنه غير مرغوب فيه، فيصبح دائم التردد والخوف، ولا يدري في أي تحرك هل سيُقبل منه أم لا؟، فينشأ في ظل هذا التوجس حتى يكبر فيُلحظ ذلك في تصرفاته وقراراته، فهو شخص يحتاج دائما للآخرين ليؤكدوا له أن تصرفه سليم، ودائما ما يُضخّم المشاكل، وبطيء جدّا، ويتوخى الكمال، ويبعد عن الأضواء، ولا يلتزم بالروتين.

أما د. عمرو أبو خليل أخصائي الطب النفسي، ورئيس قسم مستشفى المعمورة للطب النفسي بالإسكندرية، فيرى أن مسألة الثقة بالذات يكون وراءها عدم قبول الذات، فيظل الشخص مُركزا على سلبياته ومعظما لها، وكلما أخفق في أي تجربة سلط عليها الضوء بشدة، وظل يُخرج منها كل ما يؤكد ضعفه وفشله، فلا يرى نفسه إلا بنظارة سوداء قاتمة.

كما يشير د.عمرو إلى أنه من أخطر الأسباب وراء فقد الثقة بالنفس ما سماه بـ "الينبغيات"، وهي أن يرى الإنسان أن كل الأشياء ينبغي أن تُنجز بشكل مثالي، وبديل ذلك هو الفشل، فكل شيء ينبغي أن يكون مثاليّا، وهذا طبعا لا يحدث فيرتد ذلك على نظرة الشخص لذاته، فيظل يتهم نفسه بالفشل والغباء في حين أنه ربما يكون قد نجح في الأمر بنسبة مُرضية، وهذه النظرة ربما تجلب للإنسان أنواعا أخرى من الأمراض النفسية التي تُضاف إلى فقد الثقة بالذات.ويقترب د.عمرو من الأزمة عندما تتمثل في الأب أو رب الأسرة فيقول إن الأب فاقد الثقة بذاته يواجه ما يمكن أن نسميه كارثة اجتماعية؛ فتردده، وخوفه، وإهداره للوقت، وتهربه من المسئولية يصدم كل أفراد الأسرة، ويظهر مردود ذلك في جوانب متباينة لدى الأبناء والزوجة، أكثرها شيوعا عدم احترامهم له، وضياع القدوة في البيت، وإحساسهم بعدم الأمان، وعدم قناعتهم به كقائد، وما إلى ذلك من آثار سلبية وخيمة، على رأسها أن ينشأ الأبناء فاقدين –أيضا- للثقة بأنفسهم، وهو ما يسمى بالتماهي بين الأبناء وأبيهم.

ابدأ من جديد

يرى د. إبراهيم الفقي -رئيس مجلس إدارة المركز الكندي للتنمية البشرية والبرمجة اللغوية والعصبية- أن الحكم على الشخص بأنه فاقد للثقة بذاته أصبح مسألة شائعة ويكتنفها الكثير من التسرع مما يُفقد الشخص الثقة بذاته بالفعل؛ فإذا تردد شخص بعض الشيء أو اتسم بطول التفكير أو الخوف اتهمه المحيطون به بفقد الثقة بالذات، ولذلك يأتي على رأس الحلول لهذه المشكلة أن يبتعد الشخص عن المنتقدين المبالغين ودائمي النقد، خاصة عندما يكونون قريبين منه أو زملاء عمل، فيصبح انتقادهم بمثابة معول هدم لما يحققه الشخص من إنجازات تجاه الثقة بذاته؛ فلماذا تسمح للآخرين أن يحددوا سعادتك أو شقاءك؟!.

ويُبشر الفقي قائلا: كون الإنسان له زوجة وأولاد وفي صحة جيدة ويتعايش من عمل ما،... كل هذه إنجازات يجب أن تكون منطلقا في حياة الإنسان - حتى وإن لم يكن قد حقق غيرها- نحو بناء الثقة بالذات، ورب الأسرة هو أجدر بذلك نظرا لمشاعره الفطرية تجاه أسرته من حب وحرص؛ فلن يخسر شيئا إذا داوم على التواصل العميق مع أسرته والظهور بمظهر القائد باستمرار فهذا يجعل أفراد الأسرة يشعرون بوجوده مما يشعل عنده ثقته بذاته.

ويؤكد د. المهدي -في إطار الحلول لأزمة الثقة- أن ما ينطبق على غير المتزوج ينطبق على المتزوج أيضا؛ لأن الأعراض واحدة والأسباب مشتركة، إلا أن حاجة الأب الذي يعاني تلك الأزمة إلى الحل أشد من غيره.

ومن أولويات الحلول كما يرى د.المهدي هو الانتقال من الفشل دائما إلى محاولة جديدة تنسيك إياه، فربما تحمل المحاولة الجديدة نجاحا يزيل آثار الفشل الأول، فتكرار المحاولات والانغماس فيها يجدد الأمل، وقد سئل نابليون عن سر الثقة التي يبثها في جنوده فأجاب كنت أرد على ثلاثٍ بثلاث: فمن قال لا أقدر قلت له حاول، ومن قال لا أعرف قلت له تعلم، ومن قال مستحيل قلت له جرب.

ويجب على الأب الذي يدرك بالفعل أن لديه مشكلة في مسألة الثقة أن يدرك أيضا أهمية الأمر، وأن يضخّم إدراكه بتأثيرها في حياته؛ فيقرأ عن الأزمة نفسها وكيفية حلها، فالثقة بالذات أمر يُكتسب، وإن شعر الأب في هذه الحالة بقلة الحيلة فعليه أن يستشير الطبيب النفسي إن استدعى الأمر ولا يتعالى في ذلك.

وللأب خصوصية في هذه المسألة؛ لذلك لابد أن يبدأ الحل من أسرته؛ فيجلس مع ابنه ويراجع معه اهتماماته وإنجازاته وعلاقاته بأصدقائه، ويجلس مع زوجته ويراجع معها أحوالها، وما إن كانت تريد أن تقول له شيئا.. فهذه الأمور تكون بداية لإزالة الصورة السلبية التي تكونت عنه، ولن تكلفه شيئا سوى بعض الوقت مقابل أن تستعيد الأسرة ثقتها به وإيمانها بقيادته.

وتوازيا مع هذه الخطوة يجب أن يكون الأب مهتما بحل الأزمة على مستواه الشخصي؛ فيواجه نفسه ويواجه الآخرين، ويهتم بأن يُنجز في حياته ما يعيد إليه ثقته بذاته، وأن يهتم بمظهره، ويضع نفسه موضعها ويُقوّي من إمكاناته العلمية والعملية، ويُدرك أنه مخلوق وأن تكليف الله له بأن يرعى أسرة ويُسأل عنها هو إعلاء لشأنه فلا يحط هو من قدر نفسه.

كن نفسك

أما د. أحمد عبد العزيز النجار- مدير مركز آراء للاستشارات بدبي وأستاذ علم النفس المشارك بجامعة دبي- فيقول إن الثقة بالذات تزداد تراجعا عندما يقارن الإنسان إنجازاته يإنجازات غيره؛ ويسجل على نفسه أي تأخر في هذا السياق، ناسيا أن لكل شخص مقدراته وإمكاناته، ويؤكد أن هذه الآفة -كما سماها- هي بداية الانهيار الحقيقي للثقة بالذات؛ لذا يجب على الفرد ألا ينظر لإنجازات غيره من نافذة المقارنة، لأن ذلك لا يجلب إلا الإحباط.

ويربط النجار بين هذه الآفة وآفة التقليد المطابق؛ حيث ينظر الشخص لأي إنسان ناجح ويراه هو نموذج النجاح، ويستغرق بشدة في أن يكون مثله، وعندما لا يستطيع تحقيق ذلك تضعف همته وتتراجع ثقته بنفسه؛ لذلك يجب على الإنسان أن يسعى لأن يكون نفسه لا أحدا آخر، فكل إنسان لديه من الإمكانات ما تفرد به عن غيره؛ فأنت أنت ولست صديقك ولا قريبك ولا جارك، أنت بإمكاناتك ومقدراتك وقدراتك التي -لا شك- أنها تختلف عن غيرك، من غير مانع أن يكون لك قدوة تقتدي بها في الخطوط العريضة والعامة.

ويرى د. عمرو أبو خليل أن رب الأسرة عندما يدرك أنه يعاني أزمة في الثقة فأول خطوة يجب عليه أن يخطوها -حتى وإن كان يشعر بضعفه- هي السعي نحو تأكيد قيادته لأسرته؛ لأن انعدام ثقته بذاته يكون قد أثَّر بالفعل على وضعه كقائد، وتغيير هذا الوضع لا يأتي إلا بإشعار الأسرة بتغيّر ما؛ فيقرر -مثلا- عقد اجتماع أسري أسبوعي يستمع فيه لأفراد الأسرة عن أخبارهم وشكاواهم، وأن يعدل من خلال هذا الاجتماع من صورته كقائد.

وفي هذا الإطار يكون تركيزه على الزوجة التي يجب أن تستعيد فكرة كونه قائدا لهذه الأسرة، وأن تستعيد الأمان الذي افتقدته بسبب تخليه عن هذا الدور، وهي بدورها سوف تشيع هذا الإحساس بين الأبناء.
ويستطرد الدكتور عمرو مؤكدا ضرورة زيارة الطبيب النفسي بلا أي تعالٍ أو تهرب، فالأسرة أمانة في رقبة الرجل سوف يُسأل عنها.

المصدر: اسلام اون لاين - عمرو طاحون